بعد وفاة حبيبنا زياد، قرّر وليد دكروب وأليس بيطار رثاءه على طريقتهما الخاصّة. في الحلقة السابقة، استرسلا في الحديث عن برنامج «العقل زينة»، وفي الحلقة الجديدة، يُكمِلان الحديث عن البرنامج الذي، كما أشار دكروب: «علا صوته على صوت القنص».
حواريّة طويلة تُقدَّم إليكم على شكل سلسلة، تستعرض سيرة الفنان زياد الرحباني بأسلوبٍ غير تقليدي، وتستكشف تأثيرَه على فردين من جيلَين مختلفين.
الحلقة التاسعة
كتابة أليس بيطار ووليد دكروب
وليد:
كيف ومتى تعرّفتي إلى برنامج «العقل زينة»؟
أليس:
أنا أغبطك بشدّة على أنّك تعرّفت باكراً على هذا البرنامج، لا بل واكبت بثّه في حينها بشكل يوميّ، ممّا أثّر، بالتأكيد، على وعيك وفهمك للحياة من منظار زياد الرحباني.
أمّا عنّي، فأذكر بوضوح أول مرة استمعت فيها إلى مقطع من «العقل زينة» من إذاعة «صوت الشعب»، خلال حرب تمّوز 2006. كان المقطع الذي يحكي فيه زياد عن «واحد عنده أمل رغم كل شي صار بالبلاد…» فبلّغ عنه كي يحبسوه حتّى لا يضيع الأمل. المفارقة أنّ في ذلك الوقت بالذات، كان الأمل شبه معدوم، خاصةً لدى أهل الجنوب.
من هذا الباب تعرّفت على برنامج «العقل زينة» وتتبّعته وبدأت بالاستماع إلى ما تيسّر لي منه. ومهما كان الموضوع المطروق في هذا البرنامج، لا يمكن وضعه إلا في خانة المضحك المبكي! كما في كل أعمال زياد. هذه السخرية الفاضحة والموجعة.
وليد:
بعد ما يقارب العشرين سنة على بث أوّل حلق، ألم تشعري بأنّ هذا الكلام قد مرّ عليه الزمن؟
أليس:
أبداً.
حتّى عندما سمعت عدداً أكبر من الحلقات والمقاطع المسجلة على كاسيتات، أو المنشورة لاحقاً على وسائل التواصل، لم يتولّد لديّ هذا الشعور أبداً.
وليد:
هذه أهمية «العقل زينة».
وهذا هو الفرق بينه وبين البرنامج الإذاعي السابق لزياد، الذي شارك بإعداده وتقديمه مع المخرج جان شمعون. أعني «بعدنا طيبين… قول ألله!»، الذي تركّزت مواضيعه على حرب السنتين (1975-1977) والصراع القائم حينها بين الحركة الوطنية المتحالفة مع المقاومة الفلسطينية، من جهة، والجبهة اللبنانية المتحالفة مع الجيش السوري، من جهة أخرى. يمكن أيضاً اعتبار هذا البرنامج وثيقة تاريخيّة، لكنّها كانت تمثّل الموقف السياسي للحركة الوطنيّة حصراً.
أمّا «العقل زينة»، فكان أشمل بطروحاته. كان زياد قد فهم التركيبة اللبنانية أكثر، وكانت في جعبته وقتذاك ثلاث مسرحيّات أنتجها بعد حرب السنتين (1978-1983)، عدا عن ألبوم «أنا مش كافر» ذي النَفَس السياسي-الاجتماعي، وعدا عن الخيبات العاطفية والخذلان على المستويين الشخصي والعام…
كان زياد بنسخته الأنضج على كافّة المستويات، وكان متحمساً لتقديم أفضل ما عنده إلى إذاعته الوليدة «صوت الشعب». قدّم زياد في هذا البرنامج تجربة صوتيّة، موسيقيّة، فكريّة، سياسيّة، اجتماعيّة شاملة، مقسّمة على حلقات متنوّعة، تجاوز عددها الستين حلقة خلال المرحلة الأولى.
تبعه بعد فترة وجيزة برنامج مشابه بعنوان «ياه ما أحلاكم شو حلوين!».
أليس:
طيب، ماذا يمكنك أن تخبرني عن تركيبة الحلقة؟ كم كانت مدّة كلّ حلقة؟ ماذا تتضمّن من مواضيع؟ وهل كانت مقسّمة حسب المواضيع؟ وتحت أي خانة يمكن تصنيف هذا المحتوى؟ هل هي اسكتشات إذاعية؟ أو ما تشبه المدوّنات؟ والكثير من الأسئلة…
وليد:
سأحاول الإجابة عن الأسئلة، التي طرحتيها، والتي لم تطرحيها.
كانت مدّة كلّ حلقة تتراوح بين 10 و15 دقيقة. وكانت تُبثّ بعد نشرة الواحدة والنصف، وتنتهي قبل موجز الثانية النصف.
من الصعب وضع تصنيف واضح للحلقات، خاصةً من التصنيفات الحديثة التي لم تكن موجودة في ذلك الحين. هو بكل بساطة برنامج منوّعات إذاعية، أو كولّاج إذاعي، يتضمّن نقد سياسي اجتماعي ساخر، بل لاذع في بعض الأحيان.
الأهمّ من ذلك، وهذا ما استوعبته بعد سنوات، يعرّف هذا البرنامج المستمِع على جانب من جوانب ذوق زياد الموسيقي، من خلال الفواصل الموسيقية المستخدمة بين الاسكتشات، والتي كانت تعرّف عنها سلمى مصفي في الحلقات. كانت هذه الفواصل تتضمّن موسيقى وأغانٍ غربية لموسيقيين ومغنين، معظمهم أفرو-أميركيين أو من أميركا اللاتينية. ويذكُر زياد بأصوات زملائه، في جينيريك البرنامج التالي:
أبو عبسي: «الموسيقى الصامتة الواردة في البرنامج من تلحيممممممم زياد الرحباني» (في إشارة إلى الجمع واللصق).
كارمن لبّس: «أمّا الأغاني الغربيّة فهي غربيّة، وقد تمّ تجميعها في المنطقة الغربيّة المعزولة عن العالم والمجتمع الدولي».
سلمى مصفي: «هذه الأغاني من تأليف وتلحين وغناء السود».
عبر هذه الفواصل يعرّفنا زياد على أسماء من أمثال: مارفن غاي (Marvin Gaye)، كوينسي جونس (Quincy Jones)، ثلما هيوستن (Thelma Houston)، باتي أوستن (Patti Austin)، جويس كينيدي (Joyce Kennedy)، جو سامبل (Joe Sample)، تينا تيرنر (Tina Turner)، إيفلين تشامبين كينغ (Evelyn "Champagne" King)، روبرتا فلاك (Roberta Flack)، وغيرهم الكثير…
كما يعرّفنا من خلالها على أنواع موسيقيّة معاصرة مثل الديسكو، والفانك، والـR&B، والجاز، والسول، والبوب، وغيرها...
المواضيع في الحلقة الواحدة كانت تتنوّع بين الاسكتشات التمثيليّة، والنقد الاجتماعي والسياسي الساخر. بعد سنوات قليلة، أعاد زياد طبع مختارات من هذه الحلقات على كاسيتات وأقراص مدمجة، نزلت إلى الأسواق في إصدارين:
الأوّل من إنتاج صوت الشعب بعنوان «العقل زينة»، صدر في ثلاثة كاسيتات مصنّفة حسب المواضيع على الشكل التالي: Socio، Politico، لحظات منوّعة، حَمِيم-حريم. كما كُتبت داخل كل مغلّف كاسيت الفقرة التالية: «تحذير: إنّ الأغاني الغربيّة المسموعة على هذا الشريط، لا يحق لنا استعمالها على الإطلاق، إلّا بعد استشارة جمعيّة حقوق المؤلفين والملحّنين والناشرين وبعد موافقتها على كل أغنية بمفردها وعلى التوقيت بالثواني المستعمل منها، وهذا ما يرتّب علينا دفع مبالغ خياليّة للجمعيةّ المذكورة أعلاه والتي لها حق الملاحقة في جميع أنحاء العالم، لكننا في بلد خارج إطار هذا العالم «وقايمة القيامة»...»
أمّا الإصدار الثاني فكان بعنوان «تابع لشي تابع شي…» من إنتاج شركة «ريلاكس إن»، صدر في كاسيتين، مصنفيّن على الشكل التالي: Harimos، Igtimaais، Siasis، Democratas. وكُتبت أيضاً في الداخل الفقرة التالية: «ملاحظة: كلّ الأغاني الغربيّة المستعملة في هذين الشريطين ممنوع استعمالها على الإطلاق، وبهذا الشكل الفاضح بالتحديد، قبل دفع الحقوق الماديّة المترتبة لملحنيها والمؤلفين، إنّما، ورغم ذلك، فقد استعملناها وعلناً!!... نحن في حالة حرب ضروس (DAROUS)!!!».
أليس:
تلفتني جداً الحلقات أو المقاطع المصنّفة ضمن Harimos. يعجبني كيف يشرح العلاقة بين الرجل والمرأة، ما يعكس المعاناة الطريفة المتبادلة بين الاثنين. هذه المقاطع والحوارات تكشف بوضوح هشاشة زياد وضعفه ضمن هذه الثنائيّة، وتظهر محاولاته لفهم ما يجول في ذهن المرأة.
محاولات بمعظمها فاشلة، لكنها صادقة وحقيقيّة، مضحكة ومؤلمة في آن، والأهم أنّها منصِفة للمرأة، وبعيدة عن الكليشيهات المعروفة في وصف طباع الرجل والمرأة على حدّ سواء.
وليد:
صحيح، هذا الخطاب سوف يظهر لاحقاً في أغانيه لفيروز، وسلمى، ولطيفة، وغيرهنّ.
أليس:
ما رأيك بظاهرة المقولات المنسوبة لزياد ولبرنامج «العقل زينة» بالتحديد، والتي بدأت تظهر وتنتشر بكثافة منذ دخول وسائل التواصل الاجتماعي إلى حياتنا؟
وليد:
بصراحة، هذه من كوارث منصّات التواصل الاجتماعي. أصبح بإمكان أيٍّ كان أن يصمّم منشوراً فيه كلام منسوب لزياد، مصحوب بصورة من صوره، لا علاقة لزياد به لا من قريب ولا من بعيد. هذا ما دعا ثلّةً من الزياديين لإطلاق حملة على وسائل التواصل الاجتماعي بعنوان «مش لزياد»، بهدف نفي الأقاوال المنسوبة له زوراً.
أليس:
الحديث عن «العقل زينة» لا ينتهي.
وليد:
أريد أن أقول فقط، أنّ برنامج «العقل زينة» بمجموع حلقاته، أو على الأقل بالمختارات التي أصدرها زياد على خمس أشرطة، هي أشبه بقاموس من المفاهيم والمصطلحات والأفكار والتعليمات الضروريّة لفهم مسرح زياد الرحباني، وخاصةً المسرحيّتين الأخيرتين «بخصوص الكرامة والشعب العنيد» و«لولا فسحة الأملِ»، اللتين أثارتا الكثير من اللغط والنقاش والمناظرات الإعلاميّة والنقد والانتقاد.
قد يكون هذا هو الباب الذي سندخل من خلاله إلى الحديث عن مسرح زياد.
أليس:
عظيم. اسمح لي هنا أن أختم بجملة لزياد من «العقل زينة»: «أكثر مقطع بالحلقة لازم تسمعوه هو المقطع اللي ما بيعجبكن، وبتحكوا إنتو وعم تسمعوه».