وليد وأليس: هكذا عرفنا زياد (10)

بعد وفاة حبيبنا زياد، قرّر وليد دكروب وأليس بيطار رثاءه على طريقتهما الخاصّة. في الحلقة السابقة، استرسلا في الحديث عن برنامج «العقل زينة»، أمّا في الحلقة الجديدة، فيتطرقان إلى مسيرة زياد المسرحيّة. 

حواريّة طويلة تُقدَّم إليكم على شكل سلسلة، تستعرض سيرة الفنان زياد الرحباني بأسلوبٍ غير تقليدي، وتستكشف تأثيرَه على فردين من جيلَين مختلفين. 

الحلقة العاشرة 

كتابة أليس بيطار ووليد دكروب 

وليد: 

هل لاحظت أننا لم ننه الحلقة السابقة بسؤال، كما جرت العادة؟ 

أليس: 

طبعاً. 

لكنني أنهيتها بجملة لزياد من «العقل زينة»، لأمهّد لموضوع حلقتنا هذه: مسرح زياد. 

أردتُ أن نفتح هذه السيرة من باب آخر ثلاث أعمال مسرحيّة له، انطلاقاً من سؤال: ماذا كان ينتظر الجمهور من زياد عام 1993 بعد غياب عشر سنوات عن المسرح؟ 

وليد: 

ممتاز هذا السؤال! 

لكن ماذا قصدتِ بآخر ثلاث أعمال مسرحية له؟ 

أليس: 

«بخصوص الكرامة والشعب العنيد»، و «لولا فسحة الأمل»، و «الفصل الآخر». 

وليد: 

دعيني أوضّح لكِ أولاً. إنهما بالحقيقة عملان: 

بخصوص الكرامة والشعب العنيد» - كانت مدتها حوالي ثلاث ساعات ونصف، موزّعة على فصلين. والفرق في الزمن المسرحي بين الفصلين كان حوالي ست سنوات. 

«لولا فسحة الأملِ» - تجري أحداثها زمنياً بين أحداث الفصل الأول والثاني من المسرحية الأولى. وكان لدى محطة LBC اللبنانية الحق الحصري في التصوير والعرض التلفزيوني اللاحق للمسرحيّتين. بعد انتهاء عروض المسرحية الأولى، أصدر زياد عام 1993 الفصل الأول فقط من «بخصوص الكرامة…» على كاسيتين وقرصين مدمجين إنتاج شركة Relax In. وفي عام 1996 أصدر «لولا فسحة الأمل»، والفصل الثاني من «بخصوص الكرامة…» تحت عنوان «الفصل الآخر» على كاسيتين وقرصين مدمجين إنتاج شركة CBA. عندما تمّ عرض المسرحيّتين على شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال LBC، عُرضَت أيضاً على ثلاثة أجزاء متتالية (بخصوص الكرامة، لولا فسحة الأمل، الفصل الآخر). 

الكثيرون من متابعي زياد من الجيل الجديد، الذين لم يشاهدوا المسرحيتين بشكل حيّ على المسرح، ظنوا أنها ثلاث مسرحيّات. 

أليس: 

الآن فهمت. 

وليد: 

لذلك، أقترح أن نسمّي المسرحيّتين «ثلاثية الشعب العنيد»، لتسهيل ذكرهما في سياق حوارنا. 

بالعودة إلى سؤالك عمّا كان ينتظر الجمهور من زياد بعد غياب عشر سنوات عن المسرح، لا بدّ أن نعود إلى السياق الذي عُرضت فيها المسرحية الأولى، أي إلى العام 1993. 

تلقّى الجمهور «بخصوص الكرامة…» بسلبية واستياء، ممّا دعا زياد إلى الظهور المتكرّر في مقابلات مسموعة ومرئية طويلة، ومناظرات إعلامية، ومؤتمرات صحفية، ونقاشات متلفزة حيّة على المسرح مع الجمهور، الذي انقسم بين مؤيّد ومعارض لطرح زياد. كل هذا، ليشرح للناس والإعلام ماذا يريد أن يقول. 

ليفصح أكثر عن أفكاره وهواجسه، بدأ زياد بالعمل على مسرحية أخرى متصّلة بالأولى، في العام التالي (1994)، فكانت النتيجة أنّه بدل أن يكحّلها، عماها. 

طبعاً هذا ليس رأيي، بل وجهة نظر شريحة واسعة من جمهور التسعينيات. 

أليس: 

اعذرني، لم أفهم الأسباب والخلفيات وراء كل هذا اللغط. لذلك أعود إلى سؤالي الأول: ماذا كان ينتظر الجمهور من زياد عام 1993 بعد غياب عشر سنوات عن المسرح؟ 

وليد: 

هذا موضوع كبير ومتشعّب، وله سياق تاريخي، لا بدّ من الخوض فيه لفهم كل ما حدث حينها. 

قبل بداية التسعينيات، قدّم زياد في مسيرته الفنية خمس مسرحيات، نالت شعبية واسعة وشهرة تجاوزت حدود لبنان إلى كافة أنحاء العالم العربي، وخاصةً من خلال الموسيقى والأغاني التي ألّفها لتلك المسرحيات. 

«سهرية» (1973) و«نزل السرور» (1974) تضمّنتا أكثر من ثلاثين أغنية ومقطوعة موسيقية، نالت جميعها شهرة وشعبية واسعتين، ودخلت ضمن روائع السبعينيات، وما زالت حتى الآن من الأكثر استماعاً. الأهم من ذلك، انتشرت هذه الأغاني أكثر بكثير من انتشار المسرحيّتين نفسيهما. 

«سهرية» كانت مسرحية غنائية ذات حكاية بسيطة عن مطرب عجوز صاحب حانة في قرية لبنانية، وابنته الشابة، والمطرب الشاب الذي يغرَم بها. حكاية شكّلت امتداداً لخطّ الأخوين رحباني في العمل المسرحي الغنائي. كان زياد حينها في السابعة عشر من عمره، وكان يحاول اكتشاف نفسه واستكشاف قدراته الفنية، دون أن يخرج من عباءة المدرسة الرحبانية. نجح في الامتحان الذي وضعه لنفسه، ولاقى العمل رواجاً منقطع النظير، ممّا حذا بتلفزيون لبنان إلى تصوير العمل في استوديوهاته، وهكذا وصل إلينا مصوّراً بالأسود والأبيض، ومسجّلاً على كاسيتات. 

في «نزل السرور» حاول زياد أن يقول كلمته المستقلة عن البيت الرحباني. طرح موقفاً سياسياً واجتماعياً صادماً من خلال شخصيات، تمثل الشريحة الفقيرة من المجتمع اللبناني البيروتي، تجتمع في فندق متواضع، إلى أن تقع الواقعة، المعروفة لدى المستمع. ابتعد زياد هذه المرة عن الحوارات الغنائية، ولجأ إلى الأغنية والموسيقى، لكنّه وضعها في سياقها الدرامي. فكانت النتيجة مسرحية كوميديّة، اجتماعية، سياسية، استطاع من خلالها قول ما لا يستطيع أن يقوله الأخوين رحباني في مسرحهما. 

من مسرحيّة «بالنسبة لبكرا شو» - 1978

أمّا «بالنسبة لبكرا شو؟» (1978)، فكان موضوعها ملتصقاً بالواقع الاجتماعي في لبنان في فترة هدوء ما بين الحروب، من خلال بار بيروتي في شارع الحمرا، والعلاقة بين زوجين يعملان فيه، والعلاقة بينهما وبين العاملين الآخرين، والزبائن. تضمّنت ثلاث أغانٍ شهيرة (إسمع يا رضا، ع هدير البوسطة، عايشة وحدا بلاك) وتسع مقطوعات موسيقية. 

وكانت قصة «فيلم أميركي طويل» (1980) نابعة من واقع الحياة في خضم الحرب الأهلية اللبنانية، وتجري أحداثها في مستشفىً للأمراض النفسية والعصبية في الضاحية الجنوبية لبيروت. تضمّنت أربع أغانٍ (منها مقدمة الفصل الثاني «ده فيلم أميركي طويل» بصوت منى مرعشلي)، وأربع مقطوعات وتنويعات موسيقية. 

أمّا «شي فاشل» (1983)، المسرحية داخل المسرحية، فلم تتضمّن سوى مقطوعة موسيقية مستقلة واحدة. 

أردت من هذا العرض السريع الإشارة إلى أنّ المسرحيات الخمس الأولى لزياد الرحباني حملت إلى المستمع اللبناني والعربي عشرات الأغاني والمقطوعات الموسيقية التي شكّلت هوية الموسيقى اللبنانية الحديثة. 

بالإضافة إلى أنّ المسرحيات المذكورة تحمل قصصاً محدّدة ذات بناء دراميّ واضح، وذات طابع كوميدي ساخر، تصلح لأن تُسمع على أشرطة كاسيت، لتتكوّن لدى المستمع، الذي لم يشاهدها على المسرح، صورة واضحة في مخيّلته عنها. علماً أنّ أيّاً من تلك المسرحيات لم يُنقل تلفزيونيّاً، سوى «سهرية». 

أليس: 

لكن لم تجبني عن سؤالي بعد: 

ماذا كان ينتظر الجمهور من زياد بعد غياب عشر سنوات عن المسرح؟ 

وليد: 

حسناً. 

كان جمهور زياد ينتظر منه كل ما ذكرته أعلاه، أي: بالحدّ الأدنى قصة، موسيقى، أغنية، كوميديا... كان الجمهور ينتظر مسرحيّة، لا أكثر ولا أقل. 

هذا ما كان يتوقّعه الناس عند الإعلان عن المسرحيّة السادسة عام 1993. ولكن كانت المفاجأة: 

«بخصوص الكرامة والشعب العنيد» - مسرحية طويلة جدّاً تتوسّطها استراحة. لا تتضمّن قصة واضحة أو حبكة أو بناء درامي تقليدي، كما هو متَوقَّع؛ والفصل الثاني - الكارثة - مبهَم، غير مضحك، سوداوي، ونهايته مأساوية: تنشقّ الأرض لتبتلع الضابط ومن تبقّى من بشر «متحضّرين» على أرض الوطن. 

أليس: 

يا لطيف! 

وليد: 

كانت المسرحية شبيهة بحلقات من «العقل زينة»: 

قصص وخبريات ومشاهد ولوحات ونشرات أخبار وإعلانات تجارية تصوّر بطريقة مجهرية جوانب مختلفة من حياة المجتمع اللبناني في المستقبل القريب/البعيد. إذ أنّ أحداثها تبدأ في العام 1998، أي بعد خمس سنوات من عرض المسرحية، وتستمرّ حتى العام 2005. 

أليس: 

كانت الحوارات مختلفة عن باقي المسرحيات. 

في المسرحيات السابقة كانت تصلنا الرسالة «عالطاير». أمّا في هذه المسرحية، فكانت الحوارات مقطَّعة وموصَّلة بطريقة غريبة، فيها لعب على الكلام وتفكيك للغة اللبنانية المحكيّة، وفيها شخصيات غريبة من حيث الشكل والمظهر والملابس وحتى الأسماء. 

لماذا لجأ زياد لهذا الأسلوب؟ ماذا كان يريد أن يقول؟ 

وليد: 

ما رأيكِ، يا أليس، أن نستعينَ بصديق جديد للإجابة عن سؤالك؟ 

أليس: 

عظيم! 

من سيكون هذه المرة يا ترى؟

يتبع...