وليد وأليس: هكذا عرفنا زياد (8)

بعد وفاة حبيبنا زياد، قرّر وليد دكروب وأليس بيطار رثاءه على طريقتهما الخاصّة. في الحلقة السابقة، استرجعا أثر أغنيات ألبوم «معرفتي فيك» عليهما. أمّا في حلقتهما الجديدة، فيحدثاننا عن البرنامج الذي علا صوته على صوت القنص. 

حواريّة طويلة تُقدَّم إليكم على شكل سلسلة، تستعرض سيرة الفنان زياد الرحباني بأسلوبٍ غير تقليدي، وتستكشف تأثيرَه على فردين من جيلَين مختلفين.

الحلقة الثامنة 

كتابة أليس بيطار ووليد دكروب 

وليد: 

قبل «العقل زينة»، ألا ترين أن شريط «حكايا» يستحق الحديث؟ 

أليس: 

لا أعرف عمّ تتكلّم. 

وليد: 

عن شريط «حكايا» للأطفال. ألم تسمعيه؟ 

أليس: 

لم أكن أعرف أنّ لزياد عمل للأطفال. 

وليد: 

بصراحة، قلّة من يعرفون عن هذا العمل. ولعلّ الضوء قد سُلّط عليه فقط عند صدور ألبوم «إيه في أمل»، بسبب أغنية «كل ما الحكي يطول»، التي عرف الزياديون لحنها من أغنية سابقة بعنوان «كلّ الصفات فيك»، الصادرة ضمن شريط «حكايا». 

لا أذكر بالضبط كيف حصلت على هذا الشريط، لكن أذكر تماماً أنّه كان موجوداً ضمن مجموعتي من سنة 1987. هو عبارة عن حكايتين من كتابة رجاء نعيمة: «الكوز» و «ساق الريح». «الكوز» هي قصّة كوز الشمندر، البطل الذي انتصر على حقل القلقاس المتعدّي على حقله. أمّا «ساق الريح» فهي بكل بساطة حكاية سباق الأرنب والسلحفاة. 

كلمات الأغاني كتابة عبيدو باشا، ووقّع زياد اسمه على الشريط في خانة الإعداد والإشراف الموسيقي، بالإضافة إلى تلحين وتوزيع ثلاث أغانٍ: «حكايا»، «كل الصفات فيك»، «أنا الشابّ الأشبهي»، وأغنية رابعة من تلحين وتوزيع عبّود السعدي بعنوان «تحصيل حاصل». 

الحكايتان مرويّتان بصوت نجاة نعيمة، وأصوات الشخصيات تأدية عبيدو باشا، وكارمن لبّس، وعبّاس شاهين. باختصار، شريط رائع يستحق الاستماع والاهتمام. حكايتان للأطفال تحترم عقولهم من كافة النواحي: أسلوب الكتابة، أداء الأدوار، الإخراج الإذاعي (بتوقيع عبيدو باشا)، كلمات الأغاني والألحان والتوزيع، وحتى رسمة الغلاف التي وقعها الفنّان الراحل محمد شمس الدين. 

أمّا ما سمّاه زياد «الإعداد والإشراف الموسيقي»، فهو عبارة عن مشروع تصميم صوتي متكامل. عمِل زياد في هذا الشريط على تفكيك المسارات الصوتية للألحان المسجّلة لهذا العمل، ومنها صوت الكورال، بهدف إنشاء عناصر صوتيّة وتعديلها وتحريرها ومزجها لخلق تجربة متماسكة وغامرة للمستمع الصغير والكبير. 

عمل جميل ومتقن لم يأخذ حقّه لأسباب لا أعرفها، لكن على الأرجح أنّه لم يُرَوّج له كما يجب، ولم تصدر منه طبعات كافية، كما لم يصدر على أسطوانات مدمجة، فبقي طيّ الإهمال. علماً أنّ الشريط كان من إنتاج الصحافي الراحل جورج ناصيف، زوج الراحلة أيضاً نجاة نعيمة. ولعلّ هذا ما جعل زياد يستعيد لحناً منه ليعطيه لفيروز بعد 23 سنة. ولا يمكننا إغفال أنّ الشريط أنتج في ظروف الحرب الأهلية. لعلّ هذا أيضاً سبب في عدم انتشاره الواسع. 

أليس: 

كم أتشوّق لسماعه مع ابنتي الصغيرة. 

وليد: 

خلص… الموضوع عندي. 

أليس: 

بالحديث عن أجواء الحرب الأهلية، ألم يحن وقت الكلام عن «العقل زينة»؟ 

وليد: 

بالتأكيد. لكن، قبل العقل زينة، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ شهر شباط من العام 1987 شهد ولادة إذاعة «صوت الشعب» الناطقة باسم الحزب الشيوعي اللبناني. والحقيقة أنّ صوت الشعب كانت في سنواتها الأولى صوت زياد الرحباني، بكلّ ما في الفكرة من معنى. 

صمّم زياد الهويّة الصوتيّة للإذاعة عبر تلحينه للجنغلز، أو الفواصل الموسيقية وجينيريك النشرات والمواجز والفلاشات الإخبارية، وحتّى بعض الإعلانات التجارية، أشهرها إعلان سيارة «لادا» السوفياتية. الأهمّ من كلّ ذلك، شهد هذا الشهر ولادة برنامج إذاعي فريد من نوعه بعنوان «العقل زينة». 

أطلق زياد البرنامج مع انطلاقة الإذاعة في شباط 1987. هو برنامج يُبثّ مرتين إلى ثلاث مرات في الأسبوع، كان يُسجّل في استوديو زياد ByPass في الحمرا، ويُنقل على ريلز دوريّاً إلى الإذاعة في ظروف القصف والقنص والتعتير. كان يُبثّ عند الساعة الثانية والربع من بعد الظهر، ويعاد عند الساعة الخامسة والربع عصراً. 

هو برنامج سياسي، اجتماعي، ساخر، ذو طابع تمثيلي في بعض الأحيان. قدّمه زياد مع المجموعة (زياد أبو عبسي، عبّاس شاهين، كارمن لبّس، سلمى مصفي، ورولا بروش)، وتتخلّله أغانٍ أجنبيّة مختارة بعناية من زياد. 

أكثر ما أذكره في تلك الأيام هو هرولتي من المدرسة إلى المنزل في بيروت الغربيّة مشياً على الأقدام، حتّى ألحق بداية الحلقة. أكاد أجزم أنّه في وقت إذاعة الحلقة كانت المعارك تهدأ، وكانت بيروت بشطريها، لا بل بشطورِها، تصمت لتنصت إلى زياد. لماذا؟ لأنّ زياد هو بيروت، هو كلّ البلد. 

أمّا أنا، فكنت أسجّل تلك الحلقات على كاسيتات لحفظها، دون أن أعلم أنّ زياد سوف يقرّر أن ينشر حلقات ومقاطع مختارة من البرنامج على كاسيتات بعد سنوات قليلة. وهكذا انتشر ليصل إلى جيلكم. 


أليس: 

جميل أنك كنت تسجّلها عن الإذاعة مباشرةً! 

كأنّك تعلم أهمية هذه الحلقات في عمر مبكر - 12 عاماً على ما أعتقد - وأنّها تصلح لتكون وثيقة مهمة عن ذلك الزمن. قد يكون هذا دليلاً على أنّ زياد كان يخاطب بأعماله كل الأعمار والأجيال والملل والنساء والرجال…  فلكل منّا حصّة من زياد! 

اسمح لي هنا أن أتكلّم عن جيلنا. بالنسبة لنا، نحن جيل بداية التسعينات، كان كل عمل لزياد بمثابة وثيقة صوتيّة لتاريخنا المعاصر، منذ الاستقلال حتّى اليوم الذي ولدنا فيه، واليوم الذي نستمع فيه إلى تلك الأعمال. إنها، بدون مبالغة، كتاب التاريخ الموحّد وغير الرسمي، الذي لم يُنشر ولم يُدرّس في المدارس. 

إنه تاريخ الناس العاديين مثلي ومثلك، الذين عاشوا في هذا البلد وعايشوا الحرب الأهليّة وما رافقها من كوارث وانهيارات، وما تلاها من تسويات وصفقات. أعمال زياد كانت أبلغ من مئة كتاب تاريخ. علّمتنا بالسهل الممتنع كلّ ما يجب أن نتعلّمه من حروبنا وسِلمنا، ومع الأسف، لم نتعلّم. 

وليد: 

بالنسبة لي، كطفل على عتبة المراهقة، يعشق كل ما هو موقّع من زياد الرحباني، كان برنامج «العقل زينة» والبرنامج الذي تلاه «ياه ما أحلاكن شو حلوين!»، عبارة عن مدرسة في الحياة والعلاقات والفنّ والاقتصاد والاجتماع والسياسة... 

في هذه الفترة بالذات أصبحت أعماله، أقواله، مقابلاته، بمثابة البوصلة التي أهتدي بها، ولا زالت كذلك حتى اليوم. وفي هذه الفترة أيضاً بدأت أستمع إلى مسرحياته. 

أليس: 

سنؤجل الحديث عن مسرح زياد قليلاً، أليس كذلك؟ 

وليد: 

بالتأكيد، سنخصّص للمسرح أكثر من حلقة. 

لكن يهمنّي جدّاً الآن أن أعرف منك، كيف ومتى تعرّفتي إلى برنامج «العقل زينة»؟ 

يتبع...