بعد وفاة حبيبنا زياد، قرّر وليد دكروب وأليس بيطار رثاءه على طريقتهما الخاصّة. في الحلقة السابقة، حلَّ محمد صالح ضيفاً علينا، ففكَّك لنا، بحنكة، محاورات زياد مع الموسيقى. أمّا في حلقة اليوم، فيسترجع وليد وأليس أثر أغنيات ألبوم «معرفتي فيك» عليهما.
حواريّة طويلة تُقدَّم إليكم على شكل سلسلة، تستعرض سيرة الفنان زياد الرحباني بأسلوبٍ غير تقليدي، وتستكشف تأثيرَه على فردين من جيلَين مختلفين.
الحلقة السابعة
كتابة أليس بيطار ووليد دكروب
أليس:
هل تذكر كيف حصلت على كاسيت «معرفتي فيك»؟
وليد:
شقيقي كريم اشتراه من محلّ في الحمرا. ضمّ الكاسيت ست أغانٍ، إن لم نحسب "الأولى" و "الثانية". وخمسة مسارات موسيقية، منها موسيقى أغنية «عينطورة» للأخوين الرحباني، بلا كلام وبتوزيع جديد.
عشقت أغنية «رح نبقى سوا» وكنت أسمعها وأعيدها وأردّدها بلا توقّف. أعجبني لحنها المرح وإيقاعها السريع، وهذا لم يكن مألوفاً في أغنية تُصنّف في خانة «وطنيّة».
بفضلها تعرّفت على شعر جوزيف حرب، وبدأت أفهم ما هو الشعر، وما هي الصورة الشعريّة. مثلاً: أن تربطي بداية انتمائك للوطن، أيّ وطن، باليوم الذي تكوّن فيه الموج. وأن يستمرّ هذا الانتماء إلى اليوم الذي «يعتق» فيه الغيم… يعني كان يمكنه أن يقول: كنا سوا منذ الأزل ورح نبقى سوا إلى الأبد. لكن هذا يجعله خبراً، لا شِعراً. أو مثلاً: «شعبك بِحبّك لتبرد الشمس وتوقف الإيام». تصوّري؟ هذا الكلام كان يُبكيني.
قدّمه زياد لنا بإيقاع سريع وهيصة وأجواء من الفرح، وفي نفس الوقت ترك لنا فيها مكاناً للحزن النبيل والحنين. تبدأ الأغنية بشكل مباغت وسريع بالكمنجات والبيانو، ثم يدخل الفلوت بلحن مرِح، وتهدأ الموسيقى ليدخل الغيتار ممهّداً لصوت فيروز الذي ينطلق بالصورة الأولى «من يوم للي تكوّن…»، ثمّ يدخل البيانو والكيبورد والباص غيتار، وتهدأ الموسيقى مع مَدّة «الإياااام»، وقفلة فيروز لحرف الميم. لتعود وتنفجر مقدمة الكمنجات والبيانو. ويتكرّر المذهب، ولكن بمرافقة الإيقاع، والبداية التدريجية لهيصة الكورال و«الزقيفة» والنحاسيات. ثم يأتي الكوبليه الحزين الذي يذكّر بـ «رماد للي راحوا» و«منديلك، إمي»، ولكن بنفس الإيقاع المرح، وإعادة الكورال. ويستمرّ المرح والهيصة، حتى مقطع «جايي الحريّة»، ثمّ فجأة يتبدّل الجوّ والمقام مع «من شهدا الأرض للي ماتوا للأرض، ووجوهن منسيّة»، ليعود الاحتفال بـ«جايي النصر وجايي الحرية»، وتنتهي بشكل فجائي على تأكيد عبارة «جايي النصر!» على نوتة عالية، ليؤكّد حتميّة النصر القادم.
رائعة هذه الأغنية بكلّ تفاصيلها. إنّها قصة «الوطن».
أليس:
أتعلم يا وليد؟ هذه الجملة بالذات «شعبك بيحبّك…» لا يمكنني سماعها من دون أن أشعر بحزن عميق وحسرة. وهذا الشعور يزداد مع العمر، ومع سنوات الغربة القسرية. هذه الجملة بالذات كنت أقشعرّ لها، أمّا الآن، فهي تحرق قلبي، لأنني هجرت البلد و«ما بقينا سوا».
وليد:
«رح نبقى سوا»، حتّى لو في الغربة…
المهم، تنتهي الهيصة، ويعطينا زياد من بعدها جرعة من التأمّل والهدوء في الأغنية التالية «معرفتي فيك».
أليس:
عندما أستمع إلى هذه الأغنية، أتخيّل السينوغرافيا التالية: غرفة ذات إضاءة خافتة في منزل أو في حانة منعزلة، فيها طاولة وكرسيين وبيانو. على الطاولة كأسان من النبيذ الأحمر وشمعة مشتعلة. ويجلس الحبيبان متقابلين في موعدهما الأخير.
جلسة مصارحة، بمبادرة من الحبيبة، ترسم فيها خاتمة لعلاقتهما.
بهدوء تام، تدندن فيروز على أنغام البيانو: دابا دبادا… دبا دا بدا… ثم تبدأ بتوصيف بداية العلاقة:
علاقة انطلقت من شعور بالشفقة تجاهها، بعد انكسار عاطفي تعرضت له (حبّك لإلي بلّش مثل الشفقة… كان بدّي حنان). هي كانت تعي ذلك تماماً، لكنّها كانت «محتاجة إنسان». أمّا الآن فقد استعادت المبادرة وفهمت سبب الخلل وعدم التوازن في هذه العلاقة، فقررت إنهاءها بكلّ صدق وشفافية.
تتصاعد وتيرة الأغنية تدريجياً، لتنطق بكلمة «حبيبي» للمرة الأخيرة، إنما للتعبير عن نقيضها بنغمة عالية: «مش إنت حبيبي!»، وتختمها بعبارة: «مش إنت»...
أغنية، قد تبدو للمستمع رومنسية، بسيطة، لكنّها بالحقيقة هي زوبعة أحاسيس واعترافات ملتصقة بالواقع. وكما عوّدنا زياد، بأن يقول الأشياء بوضوح تام، من دون لفّ ولا دوران، فهذه الأغنية هي زياديّة بامتياز! هكذا أفهم هذه الأغنية، كمستمعة وكامرأة.
وليد:
صحيح ما تقولينه. واسمحي لي بأن أضيف نقطةً أراها مهمّة جدّاً: قد تكون هذه أوّل أغنية كتب زياد كلامها لفيروز، أو على الأقلّ لم نعرف قبلها أغنية من كلمات وألحان زياد، ومخصّصة لفيروز.
«البوسطة» و«بعتلك يا حبيب الروح» لم تكونا مكتوبتين لفيروز بالأساس. وباقي أغاني زياد السابقة هي من كلمات منصور أو الأخوين رحباني (سألوني الناس، نطّرونا، يا جبل الشيخ، حبّوا بعضن، قديش كان في ناس، أنا عندي حنين)، و جوزيف حرب (حبّيتك تنسيت النوم)، و طلال حيدر (وحدن)، وجبران (سفينتي بانتظاري). أمّا كلمات ألبوم «معرفتي فيك»، فهي موقّعة باسم جوزيف حرب، باستثناء «معرفتي فيك» و«عودك رنّان». هذه الأغنية هي بداية الحقبة الثانية من فيروز، التي لا تقلّ أهميّة عن الحقبة الأولى.
بعد هذه الأغنية كرّت سبحة الأغاني التي تعبّر عن المرأة المتمرّدة والثائرة على التقاليد، والرافضة للتبعيّة للرجل. أغنية تقول فيها فيروز «مش إنتَ حبيبي»، لتضيف بعدها «مش فارقة معاي»، و «يا ريت إنت وأنا بالبيت، بس كل واحد ببيت»، و«تنذكر ما تنعاد»، و«تنيناتنا منعرف شو صار»...
أليس:
فعلاً نقطة مهمّة.
نقطة انطلاق لفيروز - المرأة الخمسينيّة الناضجة، الحزينة والساخرة في آن.
عندما ذكرتَ «عودك رنّان»، تذكّرت الأغنية التي سبقتها في الألبوم.
وليد:
زعلي طوّل؟
أليس:
بالأحرى «ما قدرت نسيت».
وليد:
صح. لهذه الأغنية قصة مثيرة:
كان لحنها مخصّصاً لقصيدة جوزيف حرب «ورقو الأصفر»، لكن لم يكن زياد راضياً عن النتيجة. فذهبت القصيدة لمصلحة فيلمون وهبي، وبالتالي لمصلحتنا، نحن المستمعين الفيروزيين. لكن بعد سنوات قليلة، عاد زياد وطلب من جوزيف حرب وضع كلام لهذا اللحن، فولدت «ما قدرت نسيت».
أليس:
«واكتبلك عورَقة حتّى ما قول… ما بقدر قول» - رغم أنّ الكلمات من توقيع جوزيف حرب، إلّا أنّها تعبّر عن زياد المتحفّظ الذي لا يصرّح بسهولة عن مشاعره، بل يلجأ للورق.
وليد:
عند هذه النغمة الحزينة من حوارنا، لا بدّ من التطرّق إلى أغنية «لبيروت» الخالدة، التي تحمل الرقم 7 في ترتيبها ضمن الألبوم.
أليس:
الأغنية المقتبسة من لحن عالمي شهير.
وليد:
صحيح. اقتبس زياد لحن «لبيروت» عن الحركة الثانية من كونشرتو دي أرانخويث (Concerto de Aranjuez) للغيتار والأوركسترا (1939) للمؤلف الإسباني يواخين رودريغو (1901 – 1999)، وهذا مذكور على أسطوانة «معرفتي فيك» الأصليّة.
يُحكى أنّ رودريغو استوحى ثيمة الحركة الثانية للكونشرتو من حادثة القصف الجوّي لقرية غرنيكا الباسكية في إسبانيا عام 1937 من قبل سلاح الجو الألماني النازي والإيطالي الفاشي. اختيار يحمل رمزيةً واضحة للدلالة على مأساة شعب.
الملفت أنّ جوزيف حرب كتب النسخة الأولى من قصيدة «لبيروت» خصيصاً لهذا اللحن عام 1976، وغنّاها المغني المعتزل أسامة الحلّاق بمرافقة على البيانو لزياد الرحباني. وكانت كلماتها كالتالي: «لبيروت... منديل العيونِ لبيروت... وقمرٌ من قلبِ مَن يموت... معانقاً مدينةً من شموعٍ في ضبابِ...»، وطبعاً من الظلم بمكان أن نقارن نسخة فيروز بأي نسخة سابقة.
أليس:
طبعاً يمكننا أن نفرد لكل أغنية موضوعاً، لكن لا مجال لذلك هنا.
وليد:
معك حق، لكن هل يُعقل أن نتجاهل «عودك رنّان»؟
أليس:
هذه الأغنية بحدّ ذاتها قصة كبيرة… أكثر ما يلفت فيها، أمران:
الأوّل، التعبير بحدّ ذاته «عودك رنّان»، ببساطته وإيجازه. فالإيجاز أجمل ما في الفنّ. لا داعي للثرثرة أكثر.
عودُك رنّان وهذه الرنّة لي أنا، وخلص…
أمّا الأمر الثاني، فهو الهيصة التي عوّدنا عليها زياد في الكثير من أغانيه. الهيصة التي تشبه الفوضى، لكن المنظّمة، المكتوبة، المدوّنة، المنوّطة، غير العشوائية على الإطلاق، بالإضافة إلى ما يشبه إطلاق النار من مصدرين في نهاية الأغنية، للتذكير بجوّ الحرب الأهلية والاشتباكات المسلّحة التي تخرق الهدوء النسبي في بيروت.
كما قال صديقنا محمد صالح في الحلقة السابقة: عالم زياد يتّسع لكل الأصوات.
وليد:
عذراً، لكن هناك أمرٌ ثالث… هو صوت البزق الطاغي في أغنية عن العود.
عبّر زياد في أكثر من مناسبة عن حبّه لآلة البزق، وأنّ هذا الحبّ نابع من مقولة والده عاصي بأنّ العود هو آلة البلاط والسلاطين، بينما البزق للشعب.
أليس:
أنا أرى أنّ صوت البزق هو أحد أسرار جمال ألحان زياد. لا يكاد يمرّ لحن له من دون هذه الآلة الجميلة.
الآن، هل وصلنا إلى «العقل زينة»؟
وليد:
قبل «العقل زينة»، ألا ترين أنّ شريط «حكايا» يستحق الحديث؟