احمرّت شجرة البطم، تلك الشجرة الرابضة عند حدود حلمك المندثر، الواقفة عند خط عينيك.
كنت تربطين في كل خريف آفل من مكان وقفتك، أي ساحة آلامك، بين الشجرة الحمراء، والمقبرة مدفن آمالك.
اليوم أقف في المكان نفسه، أي مكانك، الشجرة صارت حمراء في مكانها، والمقبرة في مكانها، عند خطّ العيون نفسه. صرتِ في الخطّّ المعروف سلفا، لم يكن سوى تتمّة لحكاية عنوانها حياتك، اليوم باتت حكايتي.
مرّت أيّام كثيرة، منذ فقدت مجتمعي، ذلك أننا، أي أنا وأنتِ، لم نعد جمعاً، إنما حل الفراغ والرتابة، ولا أعرف كيف أعيد للمتكلم تثنيته، رغم علمي المسبق أن صيغة المتكلّم في اللغة العربية لا تحتوي إلا على المفرد والجمع.
لذلك أكتب، ستعودين عبر النصّ، ستبكي المحررة، هنا بالذات عند هذه الكلمة بالذات، والقرّاء كذلك في هذا المكان أيضاً. لكن مجتمعنا، أنا وأنت، لن يعود.
سيجف حلقي، كلما فتحت ورقة على الحاسوب، سأحدّق في خط العيون نفسه، أستعيد الرواية، وأبكي، هنا أنا أيضاً بكيت، إذ حان دوري.
كنت تعلمين أن أقصر الخطوط هو الخط المستقيم، لم تتعلمي ذلك في المدرسة، رغم أنّها كانت بجوار بيتنا تماماً (الحيط على الحيط كما نقول). لكن خط العيون علّمك، وكان حتميّاً بدوره، ذلك أنّه ربطَ بين الآلام وهدّأها، أي أراحها في آن معاً، لكنني ماذا أفعل به، ماذا أفعل بكل هذا الألم؟
أعرف أنّ الخريف قد عاد، وأنّ الشجرة حمراء، وأنّ المقبرة تقع عند الخط، وأعرف أنّ الخط المستقيم هو أقصر الطرق. وأعرف أنّك فيه وأنني فيه، وأنك ألمي، الذي لن يعود ولن يتوقّف في آن معاً.
كانت رواياتك عن الخط، تبكيني، لم تعرفي ذلك، وها أنا أرويك، لأنك بت الرواية، ولا تبكين، إنما أبكيك وأبكي نفسي، أبكي مضاعفة، أبكي مجتمعي الذي لن يعود.
بعد موتك، كان التحدي الأكبر، هو تنظيف البيت، أجلت الموضوع أياماً قليلة، لكن المهمة كانت صعبة، ليست لأنها متعبة، فهي ليست كذلك، إنّما مع كل ضربة مكنسة أو ممسحة تعني أن أثرك على الأرض سيزول، أن شعرك العالق على المكنسة سيرمى في النفايات، وأن العثور لاحقاً على شعر منك يعني أن النظافة لم تتم، وأنك لن ترضي عني، ولكن كيف ترضين عني وأنا أزيلك، أزيل أثرك؟
في أيّار الماضي، بعد أن عدت من الاستحمام فرحة، قلّمت أظافرك، وسرحت شعرك، وقلت لك هل تعرفين أن «تجدلي» شعرك؟
أجبت بكل ثقة: «إي، شو بدها الشغلة؟».
خلال ثواني معدودة صنعت «جدّولة» قصيرة، لكنك أردت ما يثبّتها.
قلت لك: أبقي عليها بين أصابعك.
هذا ما حصل. وكم ضحكنا.
لذلك، هل تعلمين كم تؤلمني الكناسة؟ كناسة شعرك وأثرك.
لقد صرتِ في الخطّ والشجرة حمراء صرتِ النقطة الأخيرة التي تؤلمني حينما أضعها.