بعد وفاة حبيبنا زياد، قرّر وليد دكروب وأليس بيطار رثاءه على طريقتهما الخاصّة. بعد أن استعرضا في الحلقة السابقة انطباعاتهما حول وثائقي «هدوء نسبي»، يتطرّقان في هذه الحلقة إلى شريط «بالهشكل»، بمداخلة من الموسيقي ماهر بجّور، الذي يزيدنا معرفةً بمصطلحات موسيقى الجاز وتقنيّاتها.
حوارية طويلة تُقدَّم إليكم على شكل سلسلة، تعرض سيرة الفنان زياد الرحباني بأسلوب غير تقليدي، وتستكشف تأثيره على فردين من جيلين مختلفين.
الحلقة الخامسة
كتابة أليس بيطار ووليد دكروب
أليس:
طيب، وماذا عن ألبوم «بهالشكل» وما قصته؟
وليد:
قبل «بهالشكل»، أودّ أن أستطرد بشأن أغنية «بلا ولا شي»، التي تستحق حديثاً خاصاً. هذه الأغنية أحدثت حالة في أوساط الزياديين في وقتها. كانت أغنية فريدة من نوعها من حيث كلامها. لم يعتد المستمع اللبناني، والعربي عامةً، على سماع هذا النوع من الكلام في أغاني الحبّ. كلام واقعي، أرضي، عن لسان إنسان عادي، يعبّر بكلمات تشبه حكي الناس.
أغنية، استبدل فيها الشاعر زياد الصور الشعرية «للقمر والشال ورفوف العصافير والقرميد»، بالمصاري والليرات والماسكرا والمسخرة والأصحاب. حُبّ أصلي بلا نفاق ولا مصالح ولا كلام معسول. ثلاثة كوبليهات يبدأ كل منها بـ«بلا ولا شي بحبك»، وتنتهي بـ«تعي نقعد بالفي/ مش لحدا هالفي/ حبّيني وفكري شوي». ولا أبسط، ولا أصدق. شعر، تكتسب كل جملة فيه أجنحة لتطير بها وتنتشر وتصبح محطّ كلام عند الناس. شعر واقعي، بسيط وسهل، على لحن رومنسي جميل ممتنع، بإيقاع فالس ¾، وصوت سامي حواط الحساس والصادق.
في مقابلة أجراها الناقد نزار مروة مع زياد، يسأله مروة:
«زياد، من أين يأتيك هذا الكلام مثل: بلا ولا شي؟»
يجيبه زياد:
«إذا ما عندك شيء وسألتك شو عندك؟ فتجاوب بـ «ولا شي». لكن أكثر من ولا شي وحدة، شو بتصير؟» «بلا ولا شي»
يجيب نزار، ويتابع:
«صحيح، من أين تأتي بهذه الجمل؟»
«ممكن دلّك عالوكيل… شو بدّك بهالشغلة!»
«ولكن عن جد حلوين كتير» يعترف أخيراً نزار.
أليس:
جميل. عندي سؤال لوليد الطفل:
ماذا كانت تعني لك هذه الأغنية حين سمعتها للمرة الأولى بعمر 11 سنة؟
وليد:
سؤال وجيه، لم أفكّر به من قبل. صحيح كنت صغيراً على فهم معاني الحُبّ، ولكن كانت هذه الأغنية، بالنسبة لي كطفل، جميلة وكفى. كنت أردّدها بدون تفكير. كانت كلماتها تضحكني، أقصد هذه السخرية الزياديّة اللمّاحة والذكيّة في أكثر الأمور جدّيّة. يعني شو جاب «المصاري والليرات» على الغزل والاعتراف بالحبّ؟ أو الماسكرا (التي لم أكن أعرف معناها) والمسخرة! كذلك «جوقة إمّك – بيّك».
أمّا معانيها كأغنية عن الحُبّ الصافي والحقيقي، فمن المؤكّد أنّني أخذت كلّ وقتي لكي أفهمها. على الأقلّ كان عليّ أن أخوض التجربة لكي أستوعب معانيها.
أليس:
وماذا عن «بهالشكل»؟
وليد:
«بهالشكل» هو بالأساس عنوان حفلة لزياد قُدّمت في Irwin Hall, BUC في نفس السنة (1986). وهذا الكاسيت هو تسجيل حيّ من الحفلة. وعرّفه زياد على الغلاف الداكن، بصورته عازفاً على الكيبورد بالأسود والأبيض، بهذا الشكل: Oriental Jazz Concert - Live! - By Ziad Rahbani ضمّ الكاسيت مقطوعات وتقسيمات جاز بتوقيعه أو لآخرين، وتميّز بموسيقيّته البحتة، أي بدون كلام.
لهذا السبب بالذات لم يأخذ هذا الألبوم حقّه. لكن برأيي المتواضع، لا يمكن تجاهله في سياق فهم مشروع زياد الموسيقي. وأهم ما جاء فيه، برأيي أيضاً، التقاسيم على مقدمة ميس الريم، وعلى «هدوء نسبي»، وعلى Prelude No 4 لشوبان، بالإضافة إلى مقطوعة جاز بعنوان «وصّله عبيته».
أودّ هنا لو يدلي صديقنا ماهر بدلوه أيضاً عن هذا الشريط/الحفل.
ماهر:
واللهِ أنا أعتقد، أنّ هذا الحفل كان «المانيفستو» الموسيقي لزياد. يقول من خلاله أنّه يمكننا أن نؤدّي أنواع كثيرة من الموسيقى «بهالشكل» إن أردتم. لذلك، كان اختياره للقطع مهمّاً ومتنوّعاً، وهنا أقصد قطع الستاندرد التي أدّاها.
وليد:
عن إذنك ماهر، لديّ رجاء هنا أن تشرح لنا وللقارئ، مصطلح «الستاندرد» عندما نتكلّم عن الجاز؟
ماهر:
الستاندرد بالجاز يا سيدي، هو مفهوم تكوّن من خلال مقطوعات وأغانٍ، اعتبرها موسيقيّو الجاز أنّها مهمّة على صعيد الميلودي، أو ما يُصطلح على تسميته بالـ Changes، أي التغييرات في الكوردات للآلات الوترية، أو في الإيقاعات. والتغييرات في الكوردات تحدّد شكل الهارموني للقطعة، والارتجال يحصل على أساس الهارموني. هذه التغييرات من شأنها أن توجّه الارتجالات والتأليفات، مما يسمح للعازفين بإضافة إبداعهم الخاص على القطعة.
عادةً ما يختار عازفو الجاز هذه القطع، ويلعبون نسختهم الخاصة منها، ويرتجلون فوقها، مقدّمين أفكارهم الموسيقية على قطعة معروفة. وهكذا، يقدّمون تحيّتهم الخاصة للمؤلف الأساسي، وهذا أيضاً مهمّ جدّاً في ثقافة الجاز.
بالعودة إلى «بهالشكل»، أخذ زياد عدّة قطع ستاندرد متنوّعة لمؤلفين مهمّين في عالم الجاز، وأدّاها مع الفرقة «بهالشكل» الذي يمكننا سماعه في الألبوم. على سبيل المثال، أخذ Round midnight من تيلينيوس مونك، وYardbird suite من تشارلي باركر، وO grande amor من أنتونيو كارلوس، وهي من نوع بوسّانوفا الذي تأثّر به زياد. ولم يكتفِ بذلك، بل أخذ أيضاً قطعة كلاسيكية للبيانو للمؤلف فريدريك شوبان، وهي Prelude No 4، وجمع فيها كل اللغات التي تأثر بها، من كلاسيك وجاز وموسيقى شرقية.
أليس:
يا سلام!
هنا يولد لديّ أيضاً سؤال:
ما الذي يمكننا أن نصنّفه في خانة الجاز الشرقي، من أعمال زياد التي تلت هذه المرحلة، وخاصةً من أعماله لفيروز؟
ماهر:
بصراحة، زياد نفسه ندم على تسمية «الجاز الشرقي»، ولم يعد يطيق هذا التصنيف بعد أن استعمله في ألبوماته في أواسط الثمانينات. وهذا ليس انتقاصاً من موسيقى الجاز أبداً، بل لأنّ ليس كل ما يكتبه هو جاز. ولو أنّ الفكرة بقيت ذاتها: تقديم أعمال مختلفة، وحتى أعماله هو، بشكل جديد ومن منظار فنان ينتمي إلى هذه المنطقة من العالم، الغنيّة بتراثها الموسيقي، المصنّف «شرقي». الجاز بالخلاصة، هو لغة موسيقية تتأثّر بشكل متواصل بالموسيقات التي نسمعها ونعزفها، بعيداً عن التسميات والتصنيفات.
أليس:
اسمحا لي أن أعلّق هنا.
أنا لست موسيقيّة محترفة، ولا أفقه في النظريات الموسيقية أو النقد الموسيقي، لكن أرى أنّ زياد الرحباني، باستخدامه الجاز وتأثّره بالموسيقى البرازيلية، واللاتينية عامةً، والكلاسيكية، أنجز نقلة، أو قفزة نوعية بالموسيقى الشرقية التي ينتمي إليها، كما يؤكّد هو في كلّ أحاديثه. لذلك، لا أرى هناك أي مبالغة في تشبيهه بسيد درويش - «فنّان الشعب». فكما كان سيد درويش ظاهرة موسيقية في زمنه، بصفته مؤسس للموسيقى العربية في القرن العشرين، فزياد الرحباني هو وريث شرعي لسيد درويش، وقد يكون مجدّد الموسيقى العربية للقرن الواحد والعشرين.
وليد:
لا مبالغة في ذلك، بكل تأكيد. أمّا بما يتعلّق بالتصنيفات والتسميات، لديّ صديق موسيقي رائع، لعلّه يقرأ حوارنا الآن، اسمه محمد صالح، يصف «موزارت» بأنه رسول لقوّة عليا، تملي عليه الأصوات، فيدوّنها كما يسمعها، بلا تعديل. ويتابع «إنّ بساطة أعمال موزارت وصدقها وعبقريّتها يدفعنا دفعاً للإحساس بأنّه من الصعب أن يأتي بذلك بشر دون مساعدة الآلهة على أقلّ تقدير. وما يؤكّد تلك الفكرة هو قدرة تلك الأعمال على السباحة عبر الزمن والقدرة الدائمة على الظهور بنفس العصرية في كلّ زمان».
هكذا هو زياد وموسيقاه. يتلقّى النغمات التي يكتبها من «صديقه الله»، ويدوّنها فقط كما يسمعها في عقله. يبقى أن يجد من يعزفها بالإتقان المطلوب، ليس أقلّ.
أقول هذا لأدعم تكهّني بأن زياد عندما يكتب الموسيقى، إن كانت لحناً لكلام، أو موسيقى صرفة، أو صامتة كما يصفها، فهو لا يقرّر سلفاً نوعها. زياد تأثر بالجاز حتماً، لكنه تأثر أيضاً بسيد درويش، وزكريا أحمد، وعاصي الرحباني، وموسيقى الباروك، والبوسّا نوڤا، والبلوز، وباخ، وكل ما سمعت أذناه. يتقن زياد كلّ هذه اللغات والأنواع الموسيقية. ليس علينا، كمستمعين عاديّين غير مختصّين بالموسيقى، أن نصنّف هذه الأغنية أو تلك، إن كانت جاز أو غير ذلك. ما صنعه زياد بالموسيقى العربية اللبنانية، هو أنّه منحها جناحين ليطيرا بها إلى العالم.
أليس:
الله على هذا الكلام الجميل!
ما رأيك يا وليد لو نطلب من صديقك محمد صالح أن يكون ضيفنا في الحلقة القادمة ليخبرنا كيف تأثّر زياد بالمؤلف الألماني باخ، وكيف تظهر تأثيرات موسيقى الباروك في أعمال زياد؟