بعد وفاة حبيبنا زياد، قرّر وليد دكروب وأليس بيطار رثاءه على طريقتهما الخاصّة. وبعد أن أطلّ علينا الموسيقي ماهر بجّور في الحلقة السابقة، يعود في هذه الحلقة ليشاركنا انطباعاته حول وثائقي «هدوء نسبي». حوارية طويلة، تُقدَّم إليكم على شكل سلسلة، تعرض سيرة الفنان زياد الرحباني بأسلوب غير تقليدي، وتستكشف تأثيره على فردين من جيلين مختلفين.
الحلقة الرابعة:
كتابة أليس بيطار ووليد دكروب
وليد:
شريط «هدوء نسبي» الذي أنتجه زياد بالتزامن مع الحفل، بالإضافة إلى، وهنا الأهمّ، الفيلم الوثائقي الذي يحمل نفس العنوان. هل شاهدتيه؟ أليس: شاهدته، مش من زمان. وليد: وما رأيك به؟
أليس:
ما رأيك أنت؟
وليد:
طيب. سأحاول استجماع ذاكرتي لأعطيكِ الانطباع الأوّل، لأنه أيضاً مهم، حتى ولو كان طفوليّاً، نظراً لكوني شاهدته لأول مرة حين صدر، وكنت في عامي الثاني عشر. الانطباع الأوّل كان خليطاً من المرح والضحك، وانتظار «القفشات الزيادية» بين المقاطع، خاصةً أنني كنت قد شاهدت مسرحية «سهرية» على «تلفزيون لبنان» بالأسود والأبيض واستمعت إلى مسرحية نزل السرور. أي كنت قد لمست خفة الدم وروح السخرية عنده، التي أدمنت عليها منذ تلك السن.
مع الإعادات، والمشاهدة المتكرّرة، بدأتُ أركّز أكثر فأكثر على المقاطع المهمّة التي يشرح فيها زياد مشروعه. رأيي بهذا الفيلم تكوّن خلال فترة طويلة نسبيّاً. يمكنني القول، وبدون مبالغة، أنني شاهدته عشرات المرّات. وفي كلّ مرة كنت أكتشف فيه جديداً.
أليس:
أنا شاهدته، كما ذكرت، مؤخّراً. أي أنني كنت ناضجة كفاية. أكثر ما لفتني هو مقطع تقول فيه المعلّقة: «الموسيقى للي رح نشوفن عم يتمرّنوا عليها أخدت شغل كتير لأنو (...) كان مطلوب إنو الباص غيتار والترومبون بالذات ينفذوا كذا ربع صوت". هنا يجيبها زياد بأنّ "للي حصل بالقِلب بالزبط، إنو كُتِبَت الموسيقى لمّا تأكدنا أنّ عازفي الباص غيتار والترومبون قدروا بشوية احتيال على تقنية الآلة تبعهن يطلعوا الربع صوت».
فظيع هذا الأمر على قدر ما هو عظيم! الأعظم أنّه مفهوم للمستمع العادي، لغير الموسيقي. عندما تستمع إلى المقطوعة المذكورة تنطرب على تقسيمات الباص غيتار والترومبون تماماً كما تنطرب على صوت العود.
وليد:
جميل ما تقولينه، والأجمل الطريقة التي عبّرتِ بها.
فعلاً، هذا هو زياد، وهذا مشروعه، كما يمكن تلخيصه بكلامه هو في الفيلم نفسه: «هاي الموسيقى بلّشت بهالطريقة. محاولة موسيقى شرقية بلغة يفهمها العالم. هلق نحن عنا إشيا كتير بالموسيقى بدنا نقولها. بس ما بدنا نضل نقولها لبعضنا. نحن منعرفها. بدنا نقولها للعالم».
ماهر:
بالإذن يا جماعة، كنت أتابعكما، وأظنّ أنّ لديّ ما أقوله في صدد هذا الفيلم العظيم.
وليد:
أرجوك يا ماهر، لا تستأذن. الحوار حوارك، تدخل متى تشاء، وتخرج كما تشاء.
ماهر:
برأيي المتواضع، حاول زياد في هذا الفيلم أن يصحّح ويشرح الكثير من المفاهيم الموسيقيّة، والأهمّ، الإنتاجيّة، أي على صعيد «الإنتاج الموسيقي».
معظم البشر يسمعون أو يشاهدون النتيجة النهائية، لكنهم لا يعرفون كيف وصل إليهم هذا المنتج الفنّي الموسيقي، وما هي المراحل التي مرّ بها. كما يقول زياد: «بين العمل والعمل فيه عمايل».
في هذا الفيلم، يشرح زياد «العمايل»، التي تبدأ بصياغته لفكرة الموسيقى التي يريد صنعها، وحديثه عن ماهيّة الجاز، وعن كونه موسيقى قائمة على الارتجال فوق لحن معيّن، وانطلاقاً من لحن معيّن؛ وكيف أنّ كل آلة تقول اللحن على طريقتها وتجوّد و«تطرّب» عليه؛ وكيف «يسلطن» عازف الجاز، كما يسلطن المطرب العربي؛ ويضرب زياد مثالاً من الطرب المصري، وتحديداً من ارتجالات أم كلثوم على مقطع «بقى يقولّي وانا قولّه» من أغنية «حلم» لزكريا أحمد.
أكثر من ذلك، يذهب زياد بالمُشاهد إلى أماكن أكثر تفصيلاً، ويشرح الشبه بين البلوز والحجاز، من حيث أنّ البلوز هو تعبير عن الحزن عند المجتمعات الأميركية الأفريقية في الولايات المتحدة.
بالمختصر، في هذا الفيلم وجدتُ نسختي المفضّلة من زياد، أي زياد الذي يحبّ أن يشرح الموسيقى، بعكس ما صرّح بعد ذلك بزمن.
من وثائقي «هدوء نسبي»-1985
أليس:
أرى بوضوح، يا ماهر، تأثّرك بهذه النسخة بالذات من زياد، من خلال شغفك بشرح الموسيقى.
ماهر:
أكثر ما أحببته في هذا الفيلم، هو عندما يشرح كيفية تسجيله للموسيقى (تحديداً أغنية «خلص») على جهاز تسجيل وميكساج من 8 مسارات (Tracks). هنا الصدمة الحقيقية بالنسبة لي: إذ لم أكن أتخيّل أنّ موسيقى بهذا التعقيد يمكن أن تُسجّل على ماكينة كهذه. موسيقى زياد فيها الكثير من التفاصيل على مستوى عدد الآلات، التي تتداخل فيما بينها، والألحان التي تشكّل مع بعضها Countrepoint (أي الطباق الموسيقي)، إلى درجة تقرّبها من موسيقى الباروك، إنما الحديثة.
قلت لنفسي حينها، إنّ زياد فعلاً «عمِل العَمايل» في ظروف لا يمكن للفنان العادي أن يعمل فيها عَملة واحدة فقط. وشكراً لاستماعكما، أنا عائد إلى الاستوديو.
أليس:
لا يُملّ من مداخلاتك، ماهر!
يعني، بالمختصر، إنّ على كل من يحب موسيقى زياد الرحباني، أو الموسيقى عامةً، أن يشاهد هذا الفيلم، ليفهم قيمة العمل الفني، والمجهود ومجموع الخبرات والمهارات والحرفية والدقة التي يتطلّبها تنفيذ الموسيقى الأصيلة، إن كانت مع أو بدون كلام، أو «الموسيقى الصامتة» كما يسمّيها زياد.
كما يقرّبنا الفيلم أكثر من شخصية زياد التي تتجاوز بمراحل الأسلوب الساخر والعفوية التي يتميّز بها والتي يعرفها معظم الناس عنه، وأعني شخصية زياد المؤلف الموسيقي الموهوب والعازف الشغوف والفنّان الحسّاس والمرهف.
وليد:
أعتقد أنّكما قلتما كلّ ما يمكن قوله، كفّيتما ووفّيتما. لكن أزيدكما من الشعر بيتاً.
لعلّ أكثر ما أذهلني في فيلم «هدوء نسبي»، وليس كاسيت الموسيقى، بل الفيلم بالذات، هو العمل مع الكورال. كان للكورال دور مختلف جدّاً عمّا اعتادت الأذن العربية سماعه. في كاسيت الموسيقى تسمع المقطوعة، ومن ضمنها أصوات الكورال أو صوت «صولو»، بدون أي كلام، وتتقبّله بشكل طبيعي. عندما تشاهد الفيلم، تكتشف المجهود الجبّار الذي بذله زياد على استخدام أصوات الكورال في عدد من المقطوعات والأغاني، وهذا يدعوك إلى الاستماع إلى نفس المقطوعات بطريقة مغايرة، بطريقة أكثر دقة في التقاط الأصوات وسماعها بالجملة وبالمفرّق.
هذا ما قصدته بأنّ فيلم «هدوء نسبي» علّمني أن أستمع إلى الموسيقى بدقّة وألتقط مواطن الجمال فيها. وهذا بالذات، برأيي، ما طبع أعمال زياد اللاحقة، وخاصةً مع فيروز.
أليس:
عدنا لفيروز. اسمح لي بهذه المناسبة أن أطرح عليك سؤالاً:
برأيك، هل زياد في أغاني فيروز هو نفس زياد في أعماله الموسيقية الخاصة، وخاصةً في النوع الذي قدّمه في «هدوء نسبي»؟
وليد:
برأيي، زياد هو نفسه في مجمل أعماله. في أغانيه لفيروز، ابتداءً من «معرفتي فيك» كان ثورياً وطليعياً ومجدّداً مثلما هو في باقي أعماله. وهنا لا يمكن إلا أن نحيّي فيروز على جرأتها وإقدامها وإيمانها بزياد الفنّان، إلى درجة أن تمنحه صوتها في أعمال بدون كلام. وسوف نأتي على ذكر هذه الأعمال في حوارنا لاحقاً.
أليس:
طيب، أخبرني المزيد عن زياد الثمانينات.
وليد:
عام 1986 انضمّ «شريط غير حدودي» و«بهالشكل» إلى قائمة إصدارات زياد التي طبعت الثمانينات، وكما تبيّن لاحقاً، طبعت حياتنا في لبنان والعالم العربي من خلال عدد من الأغاني «الأيقونية» لزياد. «شريط غير حدودي» - العنوان بحد ذاته فيه لعب على الكلام، إذ أنّ مصطلح «الشريط الحدودي» كان يُطلق على الجنوب اللبناني المحتلّ من قِبل العدو الصهيوني، والذي بقي محتلّاً حتّى العام 2000.
«شريط غير حدودي»-1986
أمّا هذا الشريط-الكاسيت، فهو غير حدودي على الإطلاق. ولم يكن داخل هذا الألبوم أي عمل له علاقة بالعنوان. بل كان يجمع الأغاني والمقطوعات التي دخلت ضمن حفل «هدوء نسبي» قبل عام، ولكن لم تدخل الشريط الذي يحمل نفس الاسم، على الأرجح لأسباب تقنية حالت دون ذلك.
ضمّ الشريط أغانٍ بتسجيل الاستوديو وبأداء رئيسي لسامي حواط -الذي ذُكِر اسمه على الغلاف- منها: «بصراحة»، و«بلا ولا شي»، و«يلا كشوا برا»، و«عالسنسول»، و«روح خبّر» (كما تعلمين هي أغنية لمؤلف وعازف الجاز الأميركي جو سامبل Joe Sample، عنوانها الأصلي Soul Shadows). الملفت في هذا الشريط أغنية بعنوان «شو بشكي أنا» بتوقيع عازف الباص-غيتار عبّود السعدي. ويُقال أنّ لهذه الأغنية قصة حقيقية تنطبق على كلماتها، ليس هناك مجال لذكرها في حوارنا هذا.
أليس:
لم أكن أعرف أي من هذه المعلومات عن تلك الأغاني والمقطوعات! أنا التي كنت أدّعي أنني حفظت كل أعمال زياد عن ظهر قلب وختمتها! يبدو أنه لديّ الكثير بعد من الدرس.
طيب، وماذا عن ألبوم «بهالشكل» وما قصته؟