وليد وأليس: هكذا عرفنا زياد (3)

بعد وفاة حبيبنا زياد، قرّر وليد دكروب وأليس بيطار رثاءه على طريقتهما الخاصّة. بعد أن تشاركا القليل من ذكرياتهما الزيادية، يحلّ الموسيقي ماهر بجّور ضيفًا على الحلقة الجديدة، ليُثقل الحوار من الناحية الأكاديميّة. حوارية طويلة، تُقدَّم إليكم على شكل سلسلة، تعرض سيرة الفنان زياد الرحباني بأسلوب غير تقليدي، وتستكشف تأثيره على فردين من جيلين مختلفين

الحلقة الثالثة: 

كتابة أليس بيطار ووليد دكروب 

أليس: 

على فكرة، متى تعرّفت على عاصي؟ 

وليد: 

نهار السبت في 21 حزيران 1986، لمّا مات. 

أليس: 

أوففف! 

وليد: 

إيه والله! كنت أسمع بالأخوين رحباني، وبأنهما ألّفا ولحّنا معظم أغاني ومسرحيات فيروز، وبأنّ أحدهما زوجها ووالد زياد. ولكن لم أنتبه إلى اسمَي عاصي ومنصور إلا لمّا مات عاصي. 

لا تنسي، كان عمري 11 سنة فقط، معذور... لكن فلنعُد إلى موضوعنا. 

كنّا قد تكلّمنا عن ألبوم «معرفتي فيك»، لكن هناك محطات مهمة في رحلة تعرّفي إلى زياد، قبل صدور هذا الألبوم. أخبرتكِ بأنني شاهدت «فيلم أميركي طويل» حين عُرضت عام 1980. كانت محطّتي التالية بعد هذا التاريخ مع زياد في العام 1984. 

هذه الفترة من 1980 وحتى 1984 كانت مليئة بالأحداث المهمة والمفصلية في تاريخ لبنان: الاجتياح الإسرائيلي وانطلاقة جبهة المقاومة (1982)، وتوقيع اتفاقية 17 أيار 1983، وإسقاطها في 6 شباط 1984، وصولاً إلى الحدث الأكبر في طفولتي في تشرين الأول 1984: الاحتفالات بالذكرى الستين لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني. عاد حينها اسم زياد الرحباني إلى الواجهة عبر نشيد «عهد الأممية» الذي اعتُمِد كنشيد جديد للحزب، وما زال حتى يومنا هذا.



أليس: 

سُئل زياد مرة: 

أنت ماذا قدّمت للحزب الشيوعي؟ 

لا أذكر في أيّ مقابلة، ولا أذكر بماذا أجاب. لكنّي أعتقد، أنا البعيدة عن الانتماء الحزبي، والقريبة من الفكر الشيوعي، أنّ ما قدّمه زياد لهذا الحزب - أو لنقُل لهذا الفكر - لا يتلخّص بنشيد أو اثنين، إنّما أكثر من ذلك بكثير. معظم ما قدّمه من أعمال مسرحية، غنائية، موسيقية، إذاعية، وغيرها، تروّج بصدق وتلقائية لهذا الفكر وبطريقة سهلة وواضحة للمواطن العادي البسيط غير الشيوعي. 

تكلّم عن الطبقية والفقر و«أيديولوجيّة التعتير»، ساخراً من «المثقفين الثوريّين» الذين يحاولون تطبيق النظرية على الواقع وهُم منفصلين عنه (نزل السرور)، وعن الاستغلال الطبقي والرأسمالية والاقتصاد الريعي (بالنسبة لبكرا شو)، وعن «المؤامرة» الطائفية وعبثيّة الحرب الأهلية في ظلّ واقع معيشي مرير، هو نفسه في المنطقتين المتناحرتين (يا زمان الطائفية)، وغيرها الكثير من الأعمال.   

وليد: 

أهاااا… هنا بيت القصيد. 

بعد سكرة الذكرى الستّين، حلّ العام 1985 وجلب معه هدايا زياديّة مهمّة جدّاً أسهمت بشكل كبير في تشكيل وعيي السياسي والاجتماعي والأخلاقي والفنّي، وتحوّل خطاب زياد الرحباني، بالنسبة إلي،ّ إلى البوصلة التي أهتدي بها لاتخاذ المواقف الشخصية من الحياة والبشر. 

أليس: 

هل تقصد «هدوء نسبي»؟ 

وليد: 

أكيد، ولكنّ قبل «هدوء نسبي»، أقصد «أنا مش كافر». 

كان هذا الشريط، بغلافه الداكن والصورة بالأسود والأبيض التي تجمع زياد الرحباني بسامي حواط كمغنٍّ، رفيقي لمدة غير محدّدة من الزمن. أسمعه بنهم، وأحاول التقاط معانيه، وأضحك من جملة «أمّك في عندا بزّين»، و«كلمة بتبدا بحرف الشين»، و «لولو…» وغيرها من النهفات الزياديّة ونوبات الضحك المسجّلة… 

بعد مدّة لا بأس بها، بدأت أفهم بعمق أكبر معاني هذا الكلام، وسلاسة الألحان، وسرعان ما صرت أعتبره مانيفستو سياسي واجتماعي بكل ما في الكلمات الثلاث من معانٍ. 

بدأت أفهم من خلال هذه الأغاني وبفضلها لماذا ولدتُ وترعرعتُ في بيت شيوعي، وما هي الفوارق الطبقية (شو هالإيام، يساعد ويعين، شو عدا ما بدا)، وما هو الموقف من الدين، ليس كمنظومة أخلاقية ثقافية فلسفية متكاملة، إنما من طريقة تعامل البشر معه، واستغلاله لشدّ العصبيّات على حساب الحاجات الأساسية للإنسان (أنا مش كافر)، والموقف من المقاومة ضد الاحتلال (أغنية المقاومة الوطنية اللبنانية)، والموقف من الأحداث السياسية التي طغت على لبنان في فترة الثمانينات، وطريقة التعاطي معها من قِبَل ما كان يسمّى «الأحزاب الوطنية» (بهنّيك)، والعلاقة بين المواطن والنظام، أو ما تبقّى من دولة (شايفه عالنظام) وغيرها من الأسئلة الكبرى التي كانت تدور في عقل طفل يكبر قبل أوانه في خضم حرب أهلية لا تعرف كيف تنتهي. 

أليس: 

أتعلم وليد؟ أعتقد أنني عندما سمعت ألبوم «أنا مش كافر» كنت بنفس المرحلة العمرية التي كنت أنت فيها عندما صدر. على الرغم من أنّ الحرب الأهلية كانت منتهية عندما ولدت، إلا أنّ بنات وأبناء جيلي عاشوا تداعياتها. نحن جيل ورث الحرب الأهلية وحملها على أكتافه وانجرّ إلى مشاكلها «عالعمياني». كما ورث أبناء الزعيم الوطني النظام و«الوطنية"»عنه بحذافيرهما. لا فرق إن كان «أنا مش كافر» قد صدر في الثمانينات أو التسعينات أو حتى في بداية الألفيّة. لم يتغيّر أي شيء. 

لا أزال أذكر وقْع إحدى جُمل أغنية «أنا مش كافر» على عقلي الطفولي آنذاك: «عم تاكلّي اللقمة بتمّي وأكلك قدّامك يا عمّي»، أشعرتني بالخطر على مستقبلي في لبنان! وأنه لا مكان لي في بلدي! 

وليد: 

خطير هذا الكلام. لقد أخفتِني الآن. 

أليس: 

فلنضع السياسة على جنب. لنتكلّم عن الموسيقى في هذا الألبوم. عن جمالية آلة البزق في أغنية سياسية اجتماعية بحتة مثل «أنا مش كافر»! 

أغنية طربية بامتياز على مقام البيّات! يعني تُطرَب وأنت تستمع إليها، وتبكي على حالك وعلى البلد، وأنت تعرّب بصوتك! يعني «يللي بيصلّي الأحد ويللي بيصلّي الجمعة» لو مسكتها أم كلثوم، كانت لتسلطن عليها لربع ساعة من الإعادة والتطريب. 

وليد: 

عذراً أليس، لكن هل أنتِ متأكّدة من أنّ «أنا مش كافر» على مقام البيّات؟ 

أليس: 

همممم… إنها كذلك على ما أظنّ. لكن لمزيد من المصداقية، تعال نسأل صديقنا ماهر. 

ماهر: 

كنت أقرأ حواركما، ورأيت اسمي. أي خدمة؟ 

وليد: 

اذكر الديب… 

أليس: 

أهلا ماهر، أرجوك، صحح لنا المعلومة. 

وليد: 

دعيني أرحّب به أولاً. أهلاً ماهر! 

اسمح لي أن أعبّر عن سعادتنا لمشاركتك معنا في هذا الحوار، ولو بالصدفة. 

نحن فعلاً بحاجة لمعرفتك الموسيقية، وقراءتك القيّمة لأعمال زياد. 

أليس: 

نعم، وشكراً، ماهر، لتلبيتك السريعة لندائنا. 

بلا طول سيرة ومجاملات، هات ما عندك عن المقامات، وعن «أنا مش كافر» بالذات. 

ماهر: 

واللهِ يا ستنا، المقامات تحتاج إلى وقت طويل وشرح مفصّل. ولكن، بما أنّنا «ما في ورانا شي» والشرح يطول، فلنتكلّم عن «أنا مش كافر»، وعن الرحلة الموسيقية التي يأخذنا إليها هذا الألبوم. 

رحلة شرقية بامتياز وبكل التفاصيل، ابتداءً من التوزيع الذي ينضح بعطر التخت الشرقي، زائد البزق. هذا التوزيع لم يأتِ من عبث، بالطبع، بل هو تحية (Homage) لأسلوب الشيخ إمام الذي كان يعتمد بشكل كبير على الآلات الشرقية. وحتى اللحن لم يبتعد عن هذا الأسلوب، بل على العكس، فيه تأثّر واضح ومتعمَّد بمدرسة الشيخ إمام وزكريا أحمد. 

الأغنية فيها شبه من «الورد جميل»، برأيي، ومتأثرة جداً بالمسار والنقلات الموجودة فيها. كل هذا، ولم آتِ بعد على ذكر المقام. 

المقام هنا هو هُزام بالأساس. بسسسس! (دائماً في بس) يعرّج على البيّات في لحظات معيّنة. لذلك أليس ليست غلطانة. 

بشكل عام في ألبوم «أنا مش كافر» يكشف زياد بوضوح عن هويته الشرقية، وتحديداً في أسلوب كتابته لآلة البزق. 

يمكننا أن نتكلّم عن ذلك لاحقاً، لكن الآن، عذراً، يجب أن أنصرف، فلديّ تسجيل. يلا باي… 

وليد: 

يا سلام على هذا الشرح المكثف والوافي! 

أليس: 

فعلاً، إضافة رائعة. شكراً ماهر، ولو أنّك انصرفت فجأة، كما ظهرت. 

وليد: 

إذاً، كنت تحكين عن «أنا مش كافر»، وقاطعتكِ. أكملي. 

أليس: 

نعم، كنت أقول كيف يمكن لمؤلف أغانٍ شرقيّة بامتياز أن يغوص في الوقت نفسه في تجارب جريئة في الجاز؟ ما هذا الدماغ الذي يمكنه إنتاج كل هذا الجمال!

 


وليد: 

صحيح ما تقولينه، ففي نفس هذا العام أيضاً قدّم زياد الرحباني واحدة من أهم حفلاته الموسيقية آنذاك على مسرح West Hall في «الجامعة الأميركية في بيروت» تحت عنوان «هدوء نسبي». كان هذا عنواناً لمرحلة من مراحل الحرب الأهلية في لبنان، كما كان بداية لمرحلة جديدة من إبداع زياد. أو بالأحرى، كان محطةً مهمة لي شخصيّاً في فهم من هو هذا الزياد وماذا يريد. بل أكثر من ذلك، ما هي الموسيقى، وكيف نسمعها، وما هي المراحل التي يمرّ بها الفنّان كي يصل إلينا هذا الشريط ذو الغلاف الأزرق البارد الذي يحمل صورة لرواق طويل مع لوحة مضيئة مكتوب عليها Exit. أقصد غلاف شريط "هدوء نسبي" الذي أنتجه زياد بالتزامن مع الحفل، بالإضافة إلى، وهنا الأهمّ، الفيلم الوثائقي الذي يحمل نفس العنوان. 

هل شاهدتيه؟ 

يتبع...