وليد وأليس: هكذا عرفنا زياد (2)

بعد رحيل حبيبنا زياد، اختار وليد دكروب وأليس بيطار أن يرثياه على طريقتهما الخاصّة. فكانت حواريّة طويلة افتُتحت برسالة تعزية رقيقة بعثت بها أليس، المقيمة في «تكساس» (الولايات المتّحدة الأميركيّة)، إلى وليد الذي كان في تلك الفترة في زيارته السنويّة إلى روسيا. تُقدَّم هذه الحواريّة إلى القرّاء على شكل سلسلة، تستعرض سيرة الفنان زياد الرحباني بأسلوب غير تقليدي، وتستكشف أثره على فردين ينتميان إلى جيلين مختلفين. 

الحلقة الثانية: 

كتابة أليس بيطار ووليد دكروب 

أليس: 

خبرية طريفة فعلاً... ومتى سمعت صوته لأول مرة؟ 

وليد: 

كانت قد مرّت سنتان على انتهاء «حرب السنتين» عندما دخلَت في التداول أشرطة كاسيت مكتوب عليها بخطّ اليد «بعدنا طيبين... قول الله»، وكان لدينا منها أكثر من ستّ كاسيتات مرقّمة. 

هي تسجيلات من برنامج إذاعي ذي محتوى سياسي ساخر، قدّمها للإذاعة اللبنانية في بيروت الغربية جان شمعون وزياد الرحباني. 

عبر هذه الكاسيتات تعرّفت على صوت زياد، وخاصةً من خلال أهزوجة «اختلط الحابل بالنابل» التي كان يغنّيها مع جان شمعون بدون موسيقى ولا توزيع، فقط بمرافقة الإيقاع: «اختلط الحابل بالنابل/ منروّقها ما بتروق/ بيكتر ضرب القنابل/ اختلط الحابل بالنابل»، إلى آخر الأبيات الساخرة التي تحاكي الوضع السياسي والأمني في لبنان والمنطقة. 

أليس: 

أنا سمعت صوته في أغنية «شو هالإيّام» عندما كنا نتدرّب عليها. ثم سمعته في مسرحية «نزل السرور». كانت أولى مسرحياته التي أستمع إليها. لم أكن أفهم كلّ شيء، لكنني كنت أضحك من قلبي، أكرّر المقاطع عشرات، بل مئات المرات، وأضحك في كل مرّة كما في أول مرّة.


من مسرحية «نزل السرور» - 1974

أذكر عندما كنّا نستقلّ السيارة مع الأهل للذهاب من النبطية إلى بيروت، كان أبي يُسمعنا مسرحيات الرحابنة وفيروز. وفي إحدى المرات طلبت من والدنا أن يُسمعنا «نزل السرور»، فاستغرب الوالد من هذا الطلب، واعتبر أن هذه المسرحية لا تناسب أعمارنا. قلت له: خلينا نتعلّم. انصاع أبي لهذا الطلب، وكان حجّةً له ليستمع هو أيضاً إلى مسرحياته المفضلة. 

هكذا، صرنا أنا وأخوتي الصغار ووالديّ نستمع إلى مسرحيات زياد، الواحدة تلو الأخرى، ونضحك، والوالدان يتهامسان عند مرور مقطع «أكبر من عمرنا»، ونحن نتهامس عليهما ونضحك في سرّنا. 

وليد: 

أنا لديّ ذكرى غريبة مع إحدى مسرحيات زياد. لسبب ما، عندما كان عمري خمس سنوات، اصطحبَنا الوالدان، شقيقي الأكبر وأنا، لمشاهدة مسرحية «فيلم أميركي طويل». 

كانت المرة الأولى التي أرى فيها صورة زياد على ملصقات المسرحية وفي الصور المعروضة عند مدخل مسرح «جان دارك» في الحمرا. أذكر أنني غرقت في نوم عميق على أنغام المقدمة الموسيقية وأصوات هبوط الطائرات، واستفقت على مشهد العلاج بالصدمات الكهربائية المصحوب بمؤثرات الإضاءة والموسيقى المتوترة وصوت الممرضة وهي تعدّ الصدمات: «واحد... تنين... تلاتة...» 

بعد هذا العرض، أصبح يرافقنا شريط موسيقى وأغاني المسرحية في سيارة الوالدين أثناء رحلاتنا اليومية من وإلى المدرسة... هكذا حفظت «قوم فوت نام وصير حلام» و«يا زمان الطائفية/ ميتا أشوفك، ميتافيزيك» و«راجعة بإذن الله»... 

لم أعد إلى مسرحيات زياد إلا بعد سنوات، وبشكل متزامن مع بث برنامج «العقل زينة» على «صوت الشعب» عام 1987. حين بدأت أتعمّق أكثر فأكثر في فكر زياد. كنت أستغرب، ما هذه الطاقة لديه التي تمكّنه من كتابة وتسجيل حلقات العقل زينة بشكل يوميّ، مع كلّ الإخراج والإعداد الموسيقي واختيار الأغاني المرافقة للحلقة!  

أليس: 

هذا ما قصدته عندما قلت: «أحسد جيلكم». أنت عاصرت حياة زياد الفنية منذ بدايتها تقريباً، وعايشت أعماله ضمن سياقاتها التاريخية والسياسية والأمنية والاجتماعية. 

وليد: 

صحيح، ولكن أهمية فنّ زياد أنه تجاوز كل تلك السياقات، وصارت أعماله هي «الحدث» أكثر من السياقات التي أنتِجَت خلالها. هكذا هي أعمال العظماء الخالدين. لا أحد يذكر اليوم، متى ولماذا، كتب شكسبير «الملك لير»، إلّا الباحثين المتخصصين بأعمال شكسبير. أعماله هي الخالدة، وليست الأحداث السياسية والاجتماعية التي عاصرتها. 

جيلكم لم يخسر الكثير من عدم معاصرته لأعمال زياد في السبعينات والثمانينات. أعماله جميعها، تجاوزت عصرها ووصلت إليكم، وستصل إلى الأجيال القادمة بعد عشرات ومئات السنين. 

أليس: 

أذكر جيّداً عندما أُطلق ألبوم «إيه في أمل». كنت قد أصبحت «كبيرة» بما فيه الكفاية لكي أفهم كل ما تغنيه فيروز. لا أنسى وقتها كيف انقسم الناس بين مؤيد ومعارض لهذا النوع من الكلام والألحان بصوت فيروز.


ألبوم «إيه في أمل» - 2010

مثلاً، كانت تحصل في المدرسة نقاشات حادة بين أنصار فيروز/عاصي وأنصار فيروز/زياد. قالوا يومها: «فيروز لم تعد فيروز مع زياد!». كنت أتحمّس وأنا أحاول أن أثبت أنّ عاصي ومنصور أيضاً لم يكونا مقبولين لدى الفئة المحافظة من «السمّيعة» عندما بدآ بالتأليف والتلحين لفيروز - المطربة الحديثة العهد وقتذاك. 

كانت طريقهم صعبة ومليئة بالعقبات، لكنهم لم يأبهوا للمعارضين، حتّى نجحوا في إرساء نمط جديد. وهكذا هو زياد أيضاً، كانت النقاشات حامية آنذاك، ولم أعد أذكر كيف انتهت، لكن أذكر أنني قلت أنّ الألبوم «حيكسّر الأرض»، وهذا الذي حصل. 

وليد: 

نفس النقاشات الحامية تقريباً كانت تحصل بعد صدور «كيفك إنت؟» عام 1991، و«معرفتي فيك» عام 1987. في المدرسة، في الشارع، بين أفراد العائلة الواحدة، في الصحافة، في الإعلام… ولكن «بالآخر في آخر»، والزمن هو الحَكَم. 

انتصرت أعمال زياد لفيروز على الزمن، بالضبط مثلما انتصرت معظم أعمال عاصي ومنصور. 

أليس: 

صحيح. مع العلم أنّ زياد لحّن لفيروز في بداياته أغانٍ لا تختلف كثيراً عن مدرسة الأهل. حتى أنني تفاجأت، لا بل صُدمت حين عرفت أنّ «نطرونا كتير» و«سألوني الناس» هما من ألحان زياد. 

وليد: 

و«قديش كان في ناس»، و«حبّوا بعضن»، و «يا جبل الشيخ»... 

أليس: 

لحظة! «يا جبل الشيخ» من ألحان زياد؟ كيف؟؟ 

وليد: 

بشو بحلفلك؟ 

أليس: 

كيف ذلك؟ كنت متأكدة من أنها للأخوين رحباني! ما هذا العرس البديع الذي يفيض من ذلك اللحن من أوّل ثانية! أغنية تباغتك بالفرح وتملؤك طاقة، تشعر بحاجة إلى أن تمسك على رأس الدبكة وتطير معها. وتدخل فيروز بصوتها، فيمسك بيدك ويطير بك فوق ثلج هذا الجبل الذي رأى وشهد الكثير! هل هذا ممكن؟؟ 

كم تشبه هذه الأغنية عاصي! لكن فعلاً، فيها سرّ زياد! كيف يمكن للشخص أن يشبه أباه، وبنفس الوقت لا يشبه إلا نفسه؟ 

وليد: 

يا سلام! ما هذا الوصف الفضائي! لم أفكّر بذلك من قبل. لكن الحق معك. 

أليس: 

ثمّ عاد زياد وأتحفنا بنفس إحساس الهيصة والفرح العارم، الفائض، اللانهائي، الذي يخطف أنفاسك في «البوسطة» و بعدها في «عودك رنان»... 

أوففف! هل لاحظت كيف انتقلنا تلقائياً للحديث عن زياد بصوت فيروز؟ فلنعُد للحديث عن زياد كزياد. زياد كموسيقي، كمسرحي، كحكوَجي، زياد كحالة، كفكرة، كموقف، كقضية. زياد كلّ هذا، وأكثر. ما هيك؟ 

وليد: 

وأكثر من هيك. 

أليس: 

منذ ذلك الوقت بدأت أبحث أكثر وأكثر عن أعمال زياد، في الكتابة والتلحين والمسرح والإذاعة، وبدأت ألاحق مقابلاته، وألاحقه هو حيث يعزف. كنت ما زلت تحت السن القانوني، ولم يكن يُسمح لي بالدخول إلى الأماكن التي يعزف فيها، إلا بواسطة من رفاقي «الكبار». 

أعجز عن وصف الشعور الذي كان يتملّكني حين أراه أو أسمع عزفه الحيّ، وأنتظر بفارغ الصبر تعليقاته القليلة والتلقائية، «لعلّ وعسى» أن يقول شيئاً مهماً في لحظة «تاريخية» أكون شاهدةً عليها… 

وليد: 

هذه حالة كلّ من أحبّ زياد. وبما أنّكِ ذكرتِ «هوسكِ الفيروزي»، أطمئنك أنّ لدي نفس الحالة، منذ زمن سحيق يمتدّ من طفولتي المبكرة. لذلك، لم يكن من الممكن أن أتعاطى مع زياد إلا من منطلق بنوّته لفيروز، حتى قبل أن أسمع باسم عاصي. 

أليس: 

على فكرة، متى تعرّفت على عاصي؟ 

يتبع...