بعد وفاة حبيبنا زياد، قرّر وليد دكروب وأليس بيطار رثاءه على طريقتهما الخاصّة. حوارية طويلة، تُقدَّم إليكم على شكل سلسلة، تعرض سيرة الفنان زياد الرحباني بأسلوب غير تقليدي، وتستكشف تأثيره على فردين من جيلين مختلفين.
الحلقة الأولى:
كتابة أليس بيطار ووليد دكروب
أليس:
مرحباً وليد. أتمنى أن تكون بخير رغم فداحة الخسارة. لا أعرف ماذا أقول... لا أستطيع إلا أن أفكّر بزياد، وبفيروز. عجيب كيف يمكننا أن نحزن ونبكي إلى هذا الحدّ على إنسان لم يكن يعرف بوجودنا حتى! أشعر وكأنّ الحزن والحداد على لبنان، وليس فقط على زياد...
المهم. لماذا أكتب لك؟ أولاً، اسمح لي أن أعزّيك وأعزّي نفسي بمصابنا الأليم والمشترك، رغم أننا لم نلتقِ يوماً، ولم نتحدّث حتى. لكن ما جمعنا هو فيديوهات عملنا عليها سابقاً، والأخوّة في حبّنا لفيروز وزياد. فاسمح لي أن أعتبرك أخي.
وليد:
ما أحلاكِ وما أصدقكِ يا أليس! فعلاً، صدقتِ بالتعبير عن الأخوّة في حبّنا لهذه العائلة. وصدقاً، أشعر باليُتم مجدداً، وكأنّي فقدتُ أبي مرة أخرى. وعلى قدر الخسارة بكيت. كلّنا بكينا. وأنا بدوري أعزّيكِ يا أختي! وأتمنى أن تكوني بخير في غربتك. أنتِ من تحتاجين فعلاً إلى المواساة.
أليس:
ثانياً، منذ ذلك اليوم المشؤوم، وأنا أشعر بالحاجة لأن أحكي عن زياد لكلّ العالم! بحاجة إلى أن أتحدّث عن كلّ ما أحبّه فيه! بصراحة، أقترح عليك أن نحضّر إهداءً لروح زياد من خلال واحدة من أغانيه، على نسق ما كنّا نصوّره سابقاً. ما رأيك؟ هل ترى هذا الأمر مناسباً؟ هل توافق أن تشاركني بهذا الإهداء؟
وليد:
بصراحة يا أليس، أنا أيضاً أشعر بالحاجة إلى التعبير عن كلّ ما بداخلي. وأنا بصدد كتابة شيء ما: مقالة، مدوّنة، منشور... أي شيء. لم أقرّر بعد. وبما أنّك بدأتِ هذا الحوار، فلديّ اقتراح آخر: الكتابة التي أفضّلها على الحديث أمام الكاميرا. لماذا لا نكتب حواراً، أو ما يشبه الحوار، ويكون موضوعه: كيف ومتى تعرّفتِ على فنّ زياد؟ ما رأيك؟
أليس:
فكرة رائعة! لكن، وبصراحة أيضاً، لستُ ضليعة بالكتابة، ولم أخض هذه التجربة من قبل. لا أريد أن أُخرّب فكرتك، خاصةً أنّ جيلك عايش فترات ومراحل مختلفة من تاريخ البلد، ومن الأحداث التي شكّلت مسيرة زياد الإبداعية وترافقت معها. أنا أحسدكم على هذا. إنّ جيلي قد تابع هذه المسيرة بأثر رجعي، وبالتالي فهمَ أعماله بطريقة مغايرة، لأنه لم يعش تلك الأحداث.
وليد:
عظيم! فليكن هذا بالضبط موضوع حوارنا.
أليس:
ماذا تقصد؟
وليد:
نحن ننتمي إلى جيلين، يفصل بينهما عقد ونصف العقد تقريباً. هذا الفرق هو بحدّ ذاته إشكالية تستحق الحوار. زياد هو ضمير الأجيال، كما سمّيته عندما رثيته على صفحتي. جيلكم أيضاً انغمس في أعمال زياد المختلفة، وأغرِم بها وبه. ها أنا أشهد على حزن أبنائي، المولودين في بداية الألفية الثانية، وتأثرهما برحيل زياد. أعتقد أنّ أهمية هذا الصنف من الفنانين تكمن في عبور الأجيال، وفي شهادتهم على العصر الذي عاشوا فيه وعايشوا أحداثه وعبّروا عنها. ألا يستحق هذا الأمر حواراً، بل حوارات منشورة؟
أليس:
أنا موافقة. أخبرني إذن، كيف تعرّفت على زياد؟
وليد:
مهلاً، مهلاً! هكذا؟ بلا مقدمات؟
أليس:
ألا تكفيك كل هذه المقدّمة؟ إنها فكرتُك واقتراحك. هيا ابدأ.
من حفلة «حراجل»-2018
وليد:
أففف... ما هذه الورطة؟ المشكلة أنّه لا يمكنني أن أتذكّر المرة الأولى التي سمعتُ فيها اسم زياد الرحباني. كما يستحيل أن أصف كيف ومتى سمعتُ صوته أو ألحانه أو ارتسمت صورته في مخيلتي. سوف أحاول... سوف أبدأ من ذلك اللحن الذي يرافقني منذ ولادتي.
منذ وعيي الأول على الحياة والبيت والعائلة، وأنا أذكر ذلك اللحن الذي لم يكن بالإمكان لعقلي حينها أن يحدّد بشكل موضوعي: هل هو جميل؟ هل يبعث في نفسي الفرح؟ الراحة؟ الحزن؟ الحنين؟... لم أكن أعرف. بالضبط كما لا يمكن للطفل أن يقوّم وجه أمّه بموضوعية، فالأمّ جميلة وكفى. بل وجهها هو الأجمل بلا منازع.
هكذا كانت موسيقى مقدّمة «ميس الريم» بالنسبة للطفل الذي كنته منذ خمسين عاماً. كانت «الموسيقى» بأل التعريف...
ما زالت هذه المقطوعة الفريدة تشدّني وتبعث في نفسي حنيناً طفوليّاً إلى ما قبل الوعي.
أقولها بكلّ تأكيد وبلا أي مبالغة: رضعت هذه الموسيقى مع حليب أمي. وأعشق سماعها بكلّ أشكالها، كما يقدّمها زياد في معظم حفلاته، وكل مرة بطريقة مختلفة وبمزاج مغاير. عجيبة هذه المقطوعة، هذه النغمات السحرية، بتأثيرها على النفس! لا، بل على نفسي.
أكاد أجزم أنّ تاريخ ولادة هذا اللحن الساحر يتطابق مع تاريخ مولدي في بداية عام 1975. أشعر بترابط روحي معها، كما لو كنت أنا صاحبها، لا زياد الرحباني. كما لو أنها مقدّمة حياتي وليست مقدّمة ميس الريم.
أليس:
أنا أيضاً يصعب عليّ أن أحدّد كيف تعرّفتُ على زياد. لكني أشعر وكأنني تعرّفتُ على أعماله دفعة واحدة. أو أنني وُلدت عام 1990 وأنا حافظة عن ظهر قلب كل أعماله.
وليد:
أها! يعني أصبتِ الفرق: عقد ونصف.
أليس:
صحيح. بالنسبة لي، أعمال زياد عبّرت عن تاريخنا وحاضرنا وحتى مستقبلنا. أذكر جيداً كيف غنّيت مع كورال «المدرسة الإنجيلية» في النبطية «شو هالإيام اللي وصلنالا». كان عمري عشر سنوات.
كاسيت «أنا مش كافر»-1985
وليد:
ما هذه المصادفة؟! عندما صدرت هذه الأغنية في كاسيت «أنا مش كافر» عام 1985، كان عمري عشر سنوات!
أليس:
نعم. وأعتقد أنني سمعتُ باسم زياد الرحباني لأول مرة في ذلك الوقت. وأنت؟ متى سمعتَ باسمه للمرة الأولى؟
وليد:
الحقيقة، حصلت معي حادثة مضحكة بهذا الخصوص. لكنني لا أستطيع ذكرها في هذا الحوار لأنه سوف يُنشر.
أليس:
لكننا لم نتفق على هذا. هيا، أخبرني ولا تكن جباناً!
وليد:
واللهِ لا أجرؤ، لأنني سوف أُكَفَّر، و«أنا مش كافر». بس يلا... ما هو البلد كافر...
كنتُ في العام الثالث من عمري، أرتاد حضانة في منطقة قصقص، على ما أظنّ، كانت تُسمّى «روضة الصنوبر» أو شيئاً من هذا القبيل. أذكر مشهداً طريفاً انطبع في ذاكرتي: كان اسم زياد الرحباني قد بدأ يتردّد على مسمعي في المنزل وفي أحاديث العائلة، وكان لدينا حصة دين في الروضة، وكانوا يعلّموننا تلاوة سورة الفاتحة. فربطتُ من دون قصد ما أسمعه في البيت بما أسمعه في حصة الدين.
عندما حان دوري في التلاوة، قلتُ بكلّ براءة وبكلّ ثقة: «زياد الرحباني الرحيم / الحمد لله ربّ العالمين». قاطعتني المعلّمة صائحةً: «استغفر الله العظيم، استغفر الله العظيم»...
أعتقد أنّه كان يومي الأخير في تلك الحضانة.
ارتحتِ يا أليس؟ إذا أقاموا عليّ الحدّ، فالحقّ عليكِ... وعلى زياد.