فؤاد عبد المجيد يتنفّس بصوت ريما خشيش... «يا من إذا»

كتابة وليد دكروب 

في عام 2006 أصدرت الفنانة ريما خشيش ألبوماً بعنوان «يا للّلي». عنوانٌ لا يطابق أيّاً من عناوين أغنيات الألبوم، لكنه يختصر، في لفظته ربّما، هويّة العمل وروحه. «يا لللّي» هي من تلك المفردات التي زيّنت الموشّحات الأندلسيّة القديمة، وجاءت لتتماهى مع الإيقاع والزخرف الموسيقي للكلمة واللحن. 

درّةَ تاج الألبوم كان الموشّحُ الآسر «لاهٍ تيّاه» من ألحان فؤاد عبد المجيد، قدّمته ريما بمصاحبة آلة الدوبل باص (توني أوفرووتر)، فكان لقاءً مدهشاً بين الكلاسيكي والحديث. لاقى هذا الموشّح، والألبوم عامّةً، نجاحاً واسعاً بين جمهور «السمّيعة» ومحبّي الغناء العربي الأصيل. تابعت ريما هذا المسار بإطلاق مزيد من أعمال عبد المجيد في ألبومات لاحقة، هي «فُتِن الذي» و«عشقتُ مها» و«حرّم النوم علينا وغفا» في ألبوم «فلك»، و«أتمنّى» و«من بين ظبا» و«لاهٍ وخليّ البال» في ألبوم «وشوشني». 

بهذه الأعمال، حمل صوت ريما خشيش الموشّح من فضائه التاريخي إلى زمننا الحاضر، محتفظاً بأصالته، ومطعّماً بحسّ معاصر يفتح له أفقاً جديداً بين الأذن الكلاسيكيّة والروح الحديثة. 

إنّ موشّح «لاهٍ تيّاه» لم يكن المحطّةَ الأولى لخشيش مع أعمال فؤاد عبد المجيد، بل إنّ هذه العلاقة الفنيّة الطويلة سبقتها محطّاتٌ عدّة. 


فؤاد عبد المجيد... شاعر الموشّح ومجدّده

ليلة رأس السنة في 31 كانون الأوّل عام 1979، فوجئ المشاهدون على القناة الأولى في التلفزيون المصري برجلٍ كهل وقور في منتصف عقده السادس، بلحية ضرب فيها الشيب وعباءة تقليدية، ويؤدّي بصوتٍ هادئٍ وملوّنٍ موشّحاً في غاية الرقّة، يقول: 

«دعاني داعي الهوى دعاني 

سقاني من كأسه سقاني 

أماني في حبّه أماني 

أغاني من لحظه أغاني»  

لم يكن أحد قد سمع باسم هذا الرجل من قبل، لكن تلك الإطلالة كانت كفيلة بتثبيت اسمه في ذاكرة عشّاق الموسيقى العربيّة الأصيلة. كان ذلك الرجل هو فؤاد عبد المجيد المستكاوي (1926 – 1994)، الشاعر والملحّن الذي أعاد إلى الموشّح العربي روحه، وجعله يتحدّث بلغة العصر دون أن يتخلّى عن أصالته. 

وُلد عبد المجيد في حيّ العبّاسيّة في القاهرة، في بيتٍ يهوى الموسيقى العربيّة القديمة. منذ صغره، كان ينصت بشغف إلى موشّحات كامل الخُلَعي والشيخ سلامة حجازي، وفي الوقت نفسه كان مأخوذاً بسحر الموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة. هذا المزج المبكر بين العالمين سيسكن تجربته لاحقاً، شعراً ولحناً. 

اكتشف والداه موهبته في وقت مبكر، شجعاه على دراسة الموسيقى على يد الأستاذ صَفَر علي، أحد مؤسسي «معهد الموسيقى العربيّة»، الذي علّمه الصولفيج والنظريّات الموسيقيّة ووجّهه نحو فنّ الموشّح تحديداً.

 

الراحل فؤاد عبد المجيد

تخصّص عبد المجيد في الهندسة الزراعيّة في جامعة «فؤاد الأوّل» (جامعة القاهرة حاليّاً)، وعمل لاحقاً وكيلاً في وزارة الزراعة. لم تبعده انشغالاته المهنيّة عن شغفه بالموسيقى واللغة، فكان يكتب الشعر بالعربيّة الفصيحة ويؤلّف الألحان ويؤدّيها لأصدقائه من الأدباء والفنانين في جلسات موسيقيّة خاصّة . 

لم يكن فؤاد عبد المجيد مولعاً بالظهور كمطرب، ولكن مع إلحاح أصدقائه، قَبِلَ أخيراً أن يطلّ على الجمهور في تلك الأمسية التاريخيّة ليلة رأس السنة 1980، بمرافقة فرقة «رضا للفنون الشعبيّة»، وبقيادة عبد الحليم نويرة، ليعلن من خلالها ميلاد صوتٍ جديدٍ في عالم الموشّح العربي. 

أصدر بعدها ألبومه الوحيد بعنوان «دعاني»، ضمّ سبع موشّحات من تأليفه وتلحينه، بمرافقة «أوركسترا النهار السيمفوني» بقيادة مصطفى ناجي. كما قدّمت له المطربة عفاف راضي عدداً من موشّحاته بتوزيعٍ موسيقي لعمر خيرت. 

من مصر، عبرت موشّحات فؤاد عبد المجيد إلى لبنان مع فرقة «بيروت للموسيقى العربيّة» بقيادة المايسترو سليم سحّاب، التي كانت الطفلة ريما خشيش مؤدّية منفردة (صوليست) فيها. 

في أيلول 1994، كرّمت «دار الأوبرا المصريّة» ذكراه في حفلٍ خاصٍّ أحيته «الفرقة القوميّة العربيّة للموسيقى» احتفاءً برجلٍ حمل الموشّح من عباءة الماضي إلى آفاق الحداثة. 


ريما خشيش… اللقاء والتحيّة للملحّن 

تعرّفت ريما خشيش إلى ألحان فؤاد عبد المجيد في سنٍّ مبكرة، عبر مشاركتها في كورال الأطفال في فرقة «بيروت للموسيقى العربيّة» عام 1984، حيث غنّى الكورال موشّحات لعبد المجيد مثل «يا من نشا» و«يا غريب الدارِ». 

في ربيع عام 1988، وأثناء زيارتها الفنيّة إلى القاهرة، كان اللقاء الأوّل بين ريما وفؤاد عبد المجيد في سهرة موسيقيّة خاصّة في منزله، تضمّنت عزفاً وغناءً لعدد من موشّحاته. كانت ريما آنذاك في الثالثة عشرة من عمرها، انسحرت بألحانه إلى الحدّ الذي دفعها لاحقاً إلى إدراج مقطعٍ من موشّح «فُتِن الذي» من تلك الجلسة في مطلع النسخة المسجّلة ضمن ألبومها «فلك». 

منذ ذلك اللقاء، حرصت ريما على زيارته في كل مرة تسافر فيها إلى مصر، حتى رحيله عام 1994. غير أنّ فكرة غناء أعماله ظلّت تسكنها، كتحيّةٍ فنيةٍ لذكراه. هكذا جاء ألبوم «يا للّلي» عام 2006، ليكون البوابّة التي أعادت من خلالها ريما لحن «لاهٍ تيّاه» إلى الحياة بصيغةٍ مميّزة، مع موسيقيين هولنديين عشقوا الموسيقى العربيّة الأصيلة، وأبدعوا في أدائها.

 

غلاف ألبوم «يا من إذا»

اليوم، بعد نحو عقدين، تعود ريما خشيش إلى عالم فؤاد عبد المجيد عبر ألبوم جديد بعنوان «يا من إذا» – تحيّة إلى فؤاد عبد المجيد، يضمّ عشرة موشّحات، من بينها أعمال تُغنّى للمرّة الأولى، مثل «يا من إذا»، و«يا راعي الظبا»، و«يا ليل الصبّ» (نفس قصيدة الحُصري القيرواني، إنما بغير اللحن القديم المعروف). 

يرافق ريما في هذا العمل الموسيقيّون الهولنديّون الذين رافقوها في مسيرتها لأكثر من خمسةٍ وعشرين عاماً: مارتن أورنشتاين (كلارينيت) وتوني أوفرووتر (كونتر باص) ويوست لايبارت (إيقاع)، وينضمّ إليهم هذه المرة خوان رودريغز (بيانو) الذي يضيف بأدائه وتوزيعه على الموشّحات نفَساً حيويّاً متجدداً. 

يقدّم الألبوم للمستمع تجربة أصيلة تمزج بين عراقة الموشّح العربي ورهافة الأغنية الفرنسيّة الحديثة، في أسلوبٍ يعكس هويّة ريما خشيش الفنيّة المتفرّدة، التي تتجاوز حدود النوع واللغة لتعيد تعريف العلاقة بين التراث والحداثة بصوتٍ واحدٍ يحمل ذاكرة الزمنين معاً. 

أصبح ألبوم «يا من إذا» متاحاً على جميع منصّات البثّ الموسيقي الرقميّة، فيما يُنتظر صدوره بنسختيّ قرصٍ مدمج (CD) وأسطوانة فينيل مع مطلع عام 2026. كما تستعد ريما خشيش لإطلاق الألبوم رسميّاً في سلسلة حفلاتٍ موسيقيّة في بيروت خلال ربيع 2026، لتكرّس من خلالها تحيّتها الصادقة إلى فؤاد عبد المجيد، ولتؤكّد مرةً أخرى أنّ صوتها ليس مجرّد أداءٍ جميل، بل جسرٌ حيّ بين الذاكرة والترنيمة، بين الموشّح وروح الزمن الحاضر.