بعد 19 عاماً على رحيل نجيب محفوظ... الطعنة لم تلتئم
بعد 19 عاماً على رحيل نجيب محفوظ... الطعنة لم تلتئم
في عصر يوم 14 تشرين الأوّل 1994، خرج من منزله في حيّ «العجوزة» بالقاهرة، قاصداً كعادته لقاء أصدقائه في إحدى المقاهي الشعبية، ربما مقهى «علي بابا» الذي كان يتردّد إليه كثيراً.
اقترب من السيارة، وصعد إلى جانب سائقه الخاص محمد جاد. وقبل أن تتحرّك السيارة، باغته شابان من الجماعة الإسلامية: أحدهما شاغل السائق، بينما تسلّل الآخر إلى نافذة السيارة حيث كان يجلس، ليطعنه بسكّين طويلة في الجانب الأيمن من رقبته.
تحرّك السائق بسرعة، فهرب المهاجمان تاركين السكين في مكانها. نُقل على الفور إلى مستشفى «الشرطة»، ثم إلى «مستشفى القوات المسلحة» حيث أُجريت له عملية جراحية دقيقة استمرت ساعات. أعلن الأطباء أنّ الطعنة كانت لتكون قاتلة لولا سرعة إسعافه، إذ جاءت قريبة جدّاً من الشريان الأساسي في الرقبة.
رغم أنّ الطعنة لم تقتل «أبا الرواية العربية» نجيب محفوظ (1911 – 2006)، إلّا أنّها أصابت العصب الرابع في يده اليمنى، ما سبّب شللاً جزئياً ودائماً منعَه من الاستمرار في الكتابة لفترات طويلة. لم يستسلم محفوظ، بل ابتكر وسائل تعينه على مواصلة كتابته: كان يملي أفكاره على أصدقائه ليكتبوها، أو يكتب بخط كبير رغم ارتجاف يده. أمّا الشابان اللذان اعتديا عليه، فقد أُعدما لاحقاً، في وقتٍ شدّد فيه محفوظ على أنه لا يحمل حقداً ضدهما ولا يتمنى إعدامهما.
نجيب محفوظ في المستشفى
ما الذي جعل شخصية أدبية متواضعة ومسالمة مثل نجيب محفوظ عرضة لهكذا عنف؟ الجواب: رواية «أولاد حارتنا».
في 21 أيلول 1950، بدأ محفوظ نشر الرواية مسلسلةً في صحيفة «الأهرام»، قبل أن يتوقف النشر في 25 كانون الثاني من العام نفسه، بعد اعتراضات من الشيخ عمر عبد الرحمن وهيئات دينية أخرى، إذ اتّهم عبد الرحمن محفوظ بـ«التطاول على الذات الإلهية».
لم تُنشر الرواية كاملة في مصر آنذاك، واحتاج الأمر إلى ثماني سنوات حتى تصدر كاملة عن «دار الآداب» في بيروت. ولم يُسمح بإعادة نشرها في مصر إلّا عام 2006 عن طريق «دار الشروق».
الرواية رمزية، تدور حول شخصية «الجبلاوي» وأبنائه وصراعاتهم في «الحارة». قرأها الكثيرون باعتبار أن «الجبلاوي» يرمز إلى الله، وأبناؤه إلى الأنبياء (آدم وموسى وعيسى ومحمد). وقد وُصف «الجبلاوي» بصفات بشرية كالخذلان والغضب، بينما رأى المتشدّدون أنّ محفوظ يدعو إلى التخلي عن الله والإيمان بالعلم، لاسيما أنّ شخصية «عرفة» – التي ترمز إلى العلم – تقتل «الجبلاوي» عن طريق الخطأ في نهاية الرواية. قرأها هؤلاء على أنها إعلان عن «موت الله» أو دعوة لاستبدال الدين بالعلم.
أكّد محفوظ مراراً أنّه لم يقصد الإساءة إلى الأديان، بل كتب بمنظور رمزي فلسفي يطرح أسئلة عن العدل والسلطة والمعرفة. لكن التحريض وصل إلى الجماعات الإسلامية المتشدّدة، فكان الاعتداء الدموي عليه بعد أكثر من ثلاثة عقود من صدور الرواية في لبنان.
غلاف رواية «أولاد حارتنا»-«دار الشروق»
مع اقتراب الذكرى التاسعة عشرة لرحيل الحائز على «جائزة نوبل في الأدب» (1988)، نستعيد هذه الحادثة وأسبابها، لنكتشف أنّ شيئاً لم يتغيّر منذ محاولة اغتياله وحتى اليوم: ما زالت حرية التعبير مهددة، والكلمة الحرة عرضة للقمع.
اليوم، في مصر، لا يزال المدوّن والناشط السياسي المصري-البريطاني علاء عبد الفتاح خلف القضبان، متهماً بـ«نشر أخبار كاذبة». لكن السبب الفعلي لاعتقاله هو سعي السلطات لإسكات الأصوات المؤثرة. اكتملت مدة حكمه في أيلول 2024، ومع ذلك ترفض السلطات الإفراج عنه قبل 2027، إذ لم تحتسب فترة احتجازه السابقة.
والدته، ليلى سُعيّف، دخلت في إضراب عن الطعام خارج مقر الحكومة البريطانية منذ أكثر من 250 يوماً، بينما بدأ علاء إضرابه عن الطعام منذ آذار 2025.
إلى جانبه، هناك أكثر من 20 صحافياً لا يزالون في السجون المصرية، من بينهم رسام الكاريكاتير أشرف عمر، والصحافيين خالد ممدوح، ورمضان جويدة، وياسر أبو العلا، وعبد الخالق فاروق، وأحمد بيومي. فيما تعيش الصحافية والمدافعة عن حقوق الإنسان راما مصطفى في المنفى بسبب الملاحقة الأمنية المستمرة.
في فلسطين، ومنذ بدء الإبادة الجماعية التي يشنّها الاحتلال على غزة منذ 7 تشرين الأوّل 2023، استُشهد أكثر من 238 صحافياً وموظفاً إعلامياً، كان آخرهم مراسل «الجزيرة» أنس الشريف.
الصحافي الشهيد أنس الشريف
كما أفادت وزارة الثقافة الفلسطينية باستشهاد أكثر من 45 فناناً وكاتباً وناشطاً ثقافياً، من بينهم: الشاعرة والروائية هبة أبو ندى، والكاتب عمر أبو شاويش، والشاعر والأكاديمي رفعت العرير، والرسامة مهَسَن الخطيب، والفنانة البصرية أمنا السالمي، والمخرج إسماعيل أبو حطب.
لا شك أن استهداف الاحتلال للصحافيين والكتّاب والفنانين ممنهج، في محاولة لطمس الحقيقة والفن المقاوم الذي يوثّق ذاكرة غزة وصمودها.
في سوريا «الجديدة»، أعلن الروائي خليل صويلح أخيراً، أنّ لجنة الرقابة رفضت السماح بطباعة روايته «جنة البرابرة» محلياً، رغم صدورها قبل أكثر من عشر سنوات عن «دار العين» في القاهرة. الرواية تسرد «ألف يوم» من الحرب السورية، وتدين جميع أطراف الصراع: النظام والفصائل المسلحة.
كذلك، يواصل التهميش مطاردة «أدب النساء»، إذ جرى تغييب شخصيات تاريخية مثل الملكة زنوبيا من المناهج التعليمية، واعتبارها شخصية «خيالية». كما حُذفت الإشارات إلى العصور ما قبل الإسلام، وإلى الأدب المتعلق بالحب، واستُبدل بمفاهيم دينية متشددة مثل «الدفاع عن الله».
وفي جامعة دمشق، أصدر عميد كلية الفنون الجميلة فؤاد دحدوح تعميماً يمنع استخدام «الموديل العاري» في النحت والرسم والحفر، ما يعيق الطلاب عن دراسة الجسد البشري وفق أسس أكاديمية دقيقة.
أمّا في لبنان، فقد استُشهد أكثر من 11 صحافياً منذ 7 تشرين الأوّل 2023 حتى اليوم. أولهم المصوّر في وكالة «رويترز» عصام عبدالله، وآخرهم مدير موقع «هوانا لبنان» الصحافي والمصوّر الميداني محمد شحادة.
ولا ننسى أنّه فور إعلان وقف إطلاق النار الأخير، شنّت قناة «أم تي في» حملة ملاحقات قضائية ضد ناشطات وإعلاميات، بعد انتقادهن تغطيتها التي اعتُبرت «محرّضة» و«غير وطنية» خلال العدوان الصهيوني.
القائمة طويلة وتتمدّد في كل أنحاء العالم العربي، بل وخارجه أيضاً. لكن في ذكرى رحيل نجيب محفوظ (30 آب 2006)، كان لا بد من استعادة حادثة محاولة اغتياله، لنضع الإصبع على جرح مفتوح منذ أكثر من ثلاثة عقود: ما زال الأدب والفنّ يتعرّضان للطمس والقمع. ما زال الكاتب والصحافي والفنان يُقتَل ويُرهّب ويُعتقل، فقط لتعبيره عن فكره، أو لنقله الحقيقة.