حرامٌ حرامٌ حرام… الفنّ السوري إلى عزلة جديدة

يوسف عبدلكي-1985


إنّ قرار عميد «كلية الفنون الجميلة» في جامعة «دمشق»، لا تقتصر خطورته على حدّ الحريات الفنية، بل هو قرار يشكّل خطراً على مسار الفنّ السوري في العالم. كي ندرك عظمة هذه الخطورة، ما علينا سوى العودة إلى الزمن البعيد، إلى ما قبل الحداثة الفنية في العالم العربي.


كتابة رنا علوش

في سوريا «الجديدة»، أصدر عميد «كلية الفنون الجميلة» في  جامعة «دمشق»، فؤاد دحدوح، قراراً رسمياً يقضي بمنع استخدام الموديل العاري في مشاريع طلاب الكلية. يشمل القرار مجالات الرسم، والنحت، والحفر التي قد تتضمن الجسد الإنساني العاري. 

لا شكّ أنّ المتابعين لأخبار سوريا باتوا على دراية بهذا المستجد، وقد عبّر فنانون كبار، إضافة إلى طلاب الكلية، عن إدانتهم للقرار، معتبرينه قيداً على حرية التعبير الفني. كما ارتفعت علامات الاستفهام حول العميد نفسه، الذي سبق أن اعتمد العري في أعماله الفنية. 


قرار منع رسم العري في  جامعة دمشق

بيان منع رسم العري في جامعة «دمشق»


هذه الإدانات تكشف النقاش العميق الذي يرافق القرار، وتعكس الحسرة على واقع القرن الحادي والعشرين الذي ما زالت سلطاته لا تجد حرجاً في تقييد حرية الفنان والأفراد. لكن خطورة هذا القرار تتجاوز مسألة الحريات الفردية لتطال مستقبل الفن السوري برمّته. ولإدراك حجم هذه الخطورة، لا بد من العودة إلى زمن بعيد، إلى ما قبل الحداثة الفنية في العالم العربي، حين كان الرسم الواقعي، ورسم جسد الإنسان وحتى الحيوان، محرّماً


التحريم الأول وتأجيل النهضة

 في حين كان فنانو عصر النهضة في إيطاليا يرسمون الموناليزا ويشيّدون جداريات كنيسة السيستينا، اكتفى الفن العربي بالخط والزخرفة الهندسية. ليست هذه الفنون قليلة القيمة، بل هي من أرقى ما أنتجته الحضارة الإسلامية، لكنها لم تدخل في حوار مباشر مع الجسد البشري أو مع الطبيعة الواقعية. السبب لم يكن فنياً بحتاً، بل دينياً–اجتماعياً: تحريم تصوير الكائنات الحية باعتباره «مضاهاة لخلق الله». 

منذ القرون الأولى، فُسّرت بعض الأحاديث النبوية على أنّ «المصوّرين يُعذّبون يوم القيامة لأنهم يخلقون كما يخلق الله». فانتشر اعتقاد بأن رسم الوجوه والأجساد البشرية محرّم أو مكروه. الأمر الذي دفع الفنان المسلم إلى البحث عن مساحات بديلة: الأرابيسك، والخط العربي، والزخرفة. فنون عظيمة بلا شك، لكنها أبعدت الجسد الإنساني عن مركز التعبير الفني. على النقيض، كان الجسد البشري في أوروبا محور التجربة الفنية: من دراسات التشريح عند ليوناردو دافنشي، إلى منظور رافاييل، وصولاً إلى مايكل أنجلو ونحت داوود. لم تكن تلك مجرد أعمال فنية، بل مختبرات معرفية وجمالية ولّدت تراكماً استمر قروناً، حتى صار الرسم الواقعي لغة مشتركة للفنانين. 


إلياس الزيات

من أعمال إلياس الزيات


النهضة المؤجَّلة عربياً

مع بداية القرن التاسع عشر، بدأ العرب يرسلون بعثاتهم إلى أوروبا. هناك، اصطدم الطلاب بواقع جديد: لغة فنية عالمية لم يعرفوها من قبل. لم تكن المشكلة في التقنيات وحدها، بل في غياب تقليد بصري متراكم. بينما كان الأوروبي يرث 400 عام من الرسم الواقعي، كان الفنان العربي يبدأ من الصفر تقريباً. هكذا، ولدت «النهضة الفنية العربية» في موقع المتأثر لا المؤثر، تنهض بخطوات مترددة، دائماً في محاولة للحاق بما فات. 


التحريم الجديد: عودة إلى نقطة الصفر

 سوريا، التي حضنت واحداً من أهم معاهد الفنون في العالم العربي، وولّدت فنانين روّاداً اجتازت أعمالهم البحار وأصبحوا مدارس، هي اليوم أمام قرار قد يمنعها من اللحاق بعجلة الفن وما قد يطرأ عليه من تجددات في ظلّ التطوّر التكنولوجي الذي نشهده. 

مع هكذا قرار، يُصبح الفن رهينة لما يُسمّى «الثوابت الاجتماعية»، ما يحوّله من مجال حرّ إلى أداة منضبطة وفق أعراف وسلطات غير فنية. لكن رغم قداستها، لنضع الحريّة جانباً، ولنفنّد خطورة هكذا قرار أكاديميًا وتأثيره على المشهد الفنّي السوري: 

اليوم، يأتي قرار منع رسم العري في دمشق ليعيدنا إلى المربّع الأول. هو لا يكتفي بمنع الموديل العاري الحيّ، بل يشطب الفكرة من جذورها: لن يُسمح للطالب حتى بتخيّل أو إعادة إنتاج الجسد من مخيلته. وهذا يعني استئصال الجسد – مركز التجربة الإنسانية – من التعبير الفني الأكاديمي. 

دراسة الجسد كانت عبر التاريخ الركيزة الأساسية لتعليم النسب والحركة والتشريح، ولإدراك الضوء والظل. حرمان الطلاب من هذه التجربة يعني تخريج أجيال تفتقد إلى أساسيات التكوين الفني، ما يجعلهم أقل قدرة على المنافسة في السياق العالمي.


صفوان داحول-1989

صفوان داحول-1989


عزلة جديدة للفن السوري

 بينما تُدرَّس دراسة الجسد بشكل أساسي في كليات الفنون حول العالم، يتحوّل الفن السوري إلى استثناء محكوم بالتابوهات، ما يعزل الفنانين عن الحوار الفني العالمي. هكذا قد ينحصر الإبداع في مساحات مقبولة اجتماعياً: مناظر طبيعية، وزخارف، وفنون تجريدية آمنة، بينما يختفي الفن الجريء الذي يواجه الأسئلة الإنسانية الكبرى. 

في أسوأ السيناريوهات، قد يتحوّل الفن السوري الرسمي إلى نسخة مدرسية باهتة، وقد يُنتَج جيل جديد من الفنانين المهاجرين الذين يضطرون إلى استكمال تعليمهم في الخارج، بحثاً عن بيئات أكثر حرية. فهل تحتمل سوريا اليوم نزيفاً جديداً لفنانيها؟ هل هذا ما تريده الدولة السورية؟ أن تلد فنانين للمنفى كما فعل النظام السابق؟


«قبيل وهبيل» - محمود حماد - 1958

«قبيل وهبيل» - محمود حماد - 1958

 

منذ اليونان والرومان، مروراً بعصر النهضة وصولاً إلى الفن الحديث، كان الجسد العاري رمزاً للحرية والجمال والوجود. حذفه من المنهاج يعني فصل الطالب السوري عن هذا الامتداد الحضاري. 

منع العري في كلية الفنون بدمشق ليس قراراً أخلاقيًا بريئًا، بل خطوة أخرى في مسار طويل من تجريف الفنون في سوريا، وتحويلها من مجال حيّ وأساسي للتفكير الحر، إلى مجال منزوع الدسم، مصمَّم لإرضاء السلطة والعرف. إنه ليس جدلًا حول العري وحده، ولا حتى حول الحق في امتلاك أدوات التعبير، بل حول مسار الفن السوري وموضعه في العالم.