رؤوف مسعد... 
المتمرّد حتى النهاية

منذ بضعة أيّام، انطفأت شمعة الروائي رؤوف مسعد (1937 – 2025)، بعد مسيرة فكريّة وأدبيّة امتدت لأكثر من ستة عقود، تنقّل خلالها بين القاهرة وبغداد وبيروت ووارسو قبل أن يستقرّ في هولندا، حاملاً معه مزيجاً إنسانيّاً معقّداً بين الدين والسياسة والمنفى والجسد والهوية. 

وُلد رؤوف مسعد في السودان لأسرةٍ قبطية بروتستانتية، وكان والده كاهناً عاش متنقّلاً بين مصر والسودان، ما جعله ينشأ داخل منظومة دينية صارمة تمرّد عليها باكراً. درس الصحافة في جامعة القاهرة، وهناك انخرط في الحركة اليسارية المصرية واعتُقل في عهد جمال عبد الناصر. 

تجربة السجن كانت فاصلة في تكوينه الفكري، إذ خرج منها أكثر تشكيكاً في الأيديولوجيات، وأكثر انحيازاً إلى الإنسان الفرد والحريّة كقيمة عليا. يقول في إحدى مقابلاته: «أنا متمرّد بالسليقة على كل شيء: على أسرتي، وطبقتي، وديانتي، وحتى على مبدأ الكتابة التقليدي». هذا التمرّد لم يكن شعاراً، بل مسار حياة. من بيت القس البروتستانتي إلى الشيوعية، ومن الصحافة إلى المسرح، ومن السجن إلى المنفى، ظلّ مسعد يسائل العالم من موقع الشكّ لا الإيمان، ومن موقع الجرح لا التبشير. 

منذ ستينيات القرن الماضي، بدأ مسعد يكتب القصة والرواية والمقالة والمسرح، دون أن ينتمي إلى تيار أو مدرسة محدّدة. كان يرى الأدب فعلاً تحريضياً، لا وسيلة للتجميل أو الوعظ. في أعماله، واجه الموروث الديني والاجتماعي مواجهةً مباشرة، وطرح أسئلة عن معنى الانتماء والخلاص والهوية والحرية. 

من أبرز رواياته «بيضة النعامة» (1994)، التي مثّلت نقطة تحوّل في مسيرته، وأحد أكثر النصوص جرأة في الأدب العربي الحديث. نصٌّ هجين بين السيرة الذاتية والخيال، كشف عن هشاشة الإنسان الممزّق بين هويّات متنازعة: مصري وسوداني، قبطي وبروتستانتي، يساري ومؤمن، شرقي وغربي. الرواية كسرت التابوهات الثلاثة الكبرى: الدين والجنس والسياسة، لكنها كانت، في جوهرها، بحثاً عن حريّة الفرد في مواجهة الأطر المفروضة عليه. 

كان رؤوف مسعد يؤمن بأنّ «لا حقيقة خارج الجسد»، فالجسد بالنسبة إليه هو أوّل الحقول التي تمارس عليها السلطات قمعها، وأوّل المساحات التي يمكن للإنسان أن يستعيد فيها ذاته. لذلك جاءت لغته الإيروتيكية صريحة، لكنها لم تكن دعوة إلى الإغراء بقدر ما كانت أداة لكشف السلطة وعلاقتها بالخوف والرغبة. كتب عن المهمشين والمثليين والمنبوذين، لأنّه رأى فيهم الوجوه الخفيّة للإنسان التي تسحقها الأديان والمجتمعات الأبوية.

في أمستردام، التي عاش فيها ثلاثة عقود، كتب مسعد أهم نصوصه المتأخرة، مثل «صخب وراء السكون» (1999)، و«غواية الوصال» (1997)، و«إيثاكا» (2006)، و «لمّا البحر ينعس» (2019). هناك اكتشف أنّ المنفى يمكن أن يكون مساحةً للحرية، لا للعقاب. قال يوماً: «الكتابة في المنفى تجعلك ترى وطنك من الخارج وتعيد اكتشاف نفسك في مرايا الآخرين». لم يكن المنفى عنده جغرافياً فحسب، بل حالة فكرية وجمالية دائمة. 

في التسعينيات، انصرف مسعد إلى مراجعات فكرية عميقة، وكتب كتاباً حوارياً مع المفكر نصر حامد أبو زيد صدر عام 2011 بعنوان «رؤوف مسعد يحاور نصر أبو زيد»، تناول فيه قضايا شائكة مثل الإسلام السياسي، والمرأة، وحقوق الإنسان. في ذلك الحوار، بدا الاثنان كأنّهما يحفران في طبقات الموروث نفسه، من موقعين مختلفين: الدين والنصّ عند أبو زيد، والجسد والمنفى عند مسعد. 

ترك رؤوف مسعد وراءه إرثاً أدبياً متنوّعاً بين الرواية والمسرح والسيرة الذاتية، من بينها: «بيضة النعامة»، و«مزاج التماسيح»، و«غواية الوصال»، و«صانعة المطر»، و«يا ليل يا عين»، و«لومومبا والنفق». وهي أعمال تؤكد أنّ الكتابة عنده كانت دائماً فعلاً تحرّرياً ضد كل أشكال السلطة، من سلطة الدين إلى سلطة اللغة نفسها. 

كان مسعد حراً، مشكّكاً، ومؤمناً بأن الأدب لا يكتمل إلّا حين يكون مغامرة في المجهول، وأن الإنسان لا يُعرّف بديانته أو جنسيته أو وطنه، بل بقدرته على طرح السؤال حتى اللحظة الأخيرة. لكن هذا التمرّد دفع به إلى تخطّي القيود والخلط بين الخيانة والحريّة، ففي الثمانينيات، زار مسعد الكيان العبري وكتب عن تجربته في كتاب «في انتظار المخلّص»، مما أدّى إلى قطيعة بينه وبين صديقه الروائي صنع الله إبراهيم، الذي اتّهمه بالتطبيع. لكن مسعد دافع عن نفسه قائلاً إنّ رحلته لم تكن سياسيّة بل معرفيّة، محاولة لفهم «الآخر» من الداخل، في زمنٍ متوتر أعقب اجتياح لبنان عام 1982. 

في النهاية، رحل رؤوف مسعد بعد أسابيع من رحيل صنع الله إبراهيم، كأنّ جيلاً كاملاً من الكتّاب الذين جعلوا الأدب العربي مختبراً للحريّة والتمرّد والتفكّر يترافقون في الموت تباعاً، كما ترافقوا في الحياة والنضال من أجلها.