دموع في فرن الشبّاك

كتابة وليد ضو 

«والحنين اللي سرى بروحي وجالك» 

كنت أظن أنني ختمت كتابة مراثيك العام الماضي، لكنني لم أكن أعرف أن كل الدموع تنتظر خلف باب عينيّ لتتدفق بكل ذلك الفيض. إذ كانت بحاجة لجمل قليلة حتى تسحبها من أماكنها السرية، من جوفي الجاف. 

يواسيني صديقي عمر لأن الذكريات في هذا الشهر تتقاطع وتتزاحم وتتراكم فوق كتفي وتحت جفنيّ. 

ليلتها، كان يكفي أن أمد يدي من شبّاك يطل على فضاء تنفسك الأخير؛ ألتقط آخر ضحكاتنا ودخاننا، العشاء الأخير، الوداع، إنغلاق الباب. وبعدها العدم. 

لم أمد يدي، لكنها مجرد جمل شفهية استحضرت كل ذلك الماضي فأعادت مبرر الضحك والسجائر قبل اشتعالها، مشروع العشاء، اللقاء. أعادت ما بات مستحيلا. أعادت اللامعقول. 

كيف لي أن أصدّق أنك صرت ماضياً؟ وأعيد وأعيد وأعيد الرثاء. 

هل تستعاد البداية حقاًّ يا لينين؟ 

لن يجيب الأصلع الروسي، فقد جرى تحنيطه وتحنيط أفكاره ومسخها. كل ما استطعت فعله هو إعادة تشكيلك بالكلمات، إعادة خلق، رغبة بالأنس والمودة. 

لكن ماذا أفعل بالأماكن المشتاقة لك، ماذا أفعل بعيني؟ 

يذكّرني عمر، بتقاطع الذكريات في زمن واحد، تسبق الدموع الأحرف، فتتبدل، تتبدل الكلمات، وتتغيّر المعاني، فيصبح رحيلك عودة، وصمتك كلاماً، ويمتلئ المقعد، والكوب والصحن والمنفضة. 

لكن كل ذلك لن يحصل. ربما لو لوّحت بيدي وسرحت بالهواء برفق لكنت استطعت جمع بقاياك التي التصقت في الأماكن، أماكنك. كنت سأجد ظلّاً، قدمين، التفاتة طفيفة، وابتسامة لأنك اقتربت من منزلك. ولكن كيف يحصل ذلك وأنت صرت في ذلك البعيد وسط كل الدمار.



وكم أحتاج من كلمات حتى أعيد ترتيب المشهد. أصلاً، هل تكفي الكلمات؟ 

كنت أظن أنّ شعلة الفقدان قد انطفأت، لكنّها ما زالت هنا في صدري. بعد التعرّف إلى الموت الفجائي والموت البطيء، لم أدرك الفرق. ذلك أن كلّ موت هو موت جزء منّا نعيد ترميمه بالكلمات والتذكّر والدموع. 

حتّى التجاعيد والشعر الأبيض، حتى الظلال السوداء تحت العيون والندوب في القلب والجلد هي أثركم، هي حياتكم هي الوقت الذي عشناه، تنفسناه، وحياتنا الماضية. 

هل حقّاً صرتم ماضياً، وكيف أصدّق؟ وكم انتظرت، ولا أعرف ما الذي أفعله بكل هذا الوقت، بكل هذا الفراغ؟ 

كل ما فعلت أنني تركت دمعتين على الطاولة، أعرف أنّها تبخرت منذ لحظة ارتطامها على الخشب، خشية أن يمسحها النادل، وتضيع في مياه نهر بيروت الآسن. هي أيضاً ترجو لقاءك، ككل سنة. 

لم أترك كلاماً واضحاً، وضعت لهاثاً وتمتمة، أنصاف كلمات، أحرف مبتورة- هذا ما تعلمته مؤخراً، إذ لم أهتًم بالمعنى بقدر تلمّس النبض والحرارة قبل ذلك التلاشي المتسارع والجماد وصقيع الصيف- أظنك ستحوّلها إلى أحرف وكلمات وجمل وضحكات ودخان ولقاء وعشاء. 

لكن ماذا أفعل عندما يخطئ ظنّي؟