«تذكرة من نوع آخر» هو عنوان المسرحيّة التي عُرضت أخيراً على خشبة «مسرح المدينة». تحمل توقيع المخرج المسرحي الشاب يوسف خليل، وتتناول حكاية ثلاث شخصيّات تلتقي في مكانٍ واحد بعد موتها في اللحظة نفسها: إحداهنّ قُتلت في الحرب، وأخرى غرقت في رحلة هجرة غير شرعيّة، والثالثة راحت ضحيّة جريمة شرف.
تنوعت أسباب موتهنّ، لكنّ ما يجمع بينهنّ هو أنّهنّ أصبحن أرقاماً في خانة الوفيّات. تأتي المسرحية كوثيقة حيّة على قصص الشخصيّات الثلاث، وعلى ما عاشته، وهي شهادة على صمت مجتمعٍ تخلّى عنهنّ في لحظةٍ كان أحوج ما يكون إلى نصرتهنّ.
ستارة شفّافة... خطّ تماس بين عالمين
على مدار خمسة وأربعين دقيقة، تقدّم المسرحيّة نوعاً من التحامٍ حيّ مع الموت، وتطرح على نحوٍ افتراضي سؤال: ماذا يحدث بعد الموت؟
لا ستارة حمراء تُفتح معلنةً بداية العرض، بل قطعة قماش شفّافة تلازم المشهديّة طوال العرض. نتساءل عن اللحظة المناسبة لإزاحتها، لكنّها تبقى قائمة كحاجزٍ يفصل بين الممثّلين والجمهور، بين المرسِل والمتلقّي.
من خلف هذا الحاجز، تناجي الشخصيّات الجمهور: تخبره بأحلامها لو أنّها لم تمت، تحلم، تموت، تتمنّى لو أنّ أحداً أنقذها، لو أنّها لم تُختزل إلى مجرّد أرقام في سجلّ الوفيّات.
تتحوّل المسافة بين خشبة المسرح، المفصولة بالقماش الشفّاف، ومقاعد الجمهور إلى مسافة رمزيّة شاهقة؛ مسافة مات فيها آلاف الأشخاص، ورآها البعض كافية ليغضّ بصره وسمعه وضميره الإنسانيّ عمّا يجري. إنّها مسافة خُذلت فيها المجتمعات الأكثر تهميشاً، وخُذِل فيها من هم في أمسّ الحاجة إلى النجاة.
متى تُنزع هذه الستارة الشفّافة؟ متى نمزّقها؟
متى ننهض ونثور؟
يتغذّى شعور العجز من هذه القماشة. إذا أردنا أن نمنحها نظيراً في حياتنا اليوميّة، قد تكون هي الأفكار المقيّدة لعقولنا، أو، كمثالٍ معاصر، شاشة الهاتف التي تحوّلنا من أشخاصٍ ثائرين على الظلم وجرائم الشرف والإبادة إلى متفرّجين مثقلين بالاعتقاد أنّنا عاجزون، منتظرين مبادرات المنظّمات غير الحكوميّة لتتحرّك بالنيابة عنّا.
تكمن أهميّة الصراع الذي تطرحه المسرحيّة في أنّه يخرج من دائرة الضحيّة، ويسلّط الضوء على إمكانيّتنا نحن في التغيير والثورة — الثورة بمعناها النهضويّ على كلّ ما لا يليق بمجتمعنا، وعلى كلّ ما يحدّنا ويكبّلنا.
تجسّد ذلك في مناجاة الممثّلين للجمهور في لحظاتٍ عدّة من العرض:
«حدا يقوم يساعدها»،
«بدكن تضلّكن عم تتفرّجوا؟»،
«ساعدوها».
هذه النداءات، على بساطتها، تذكّر المشاهد بأنّه ليس عاجزاً، وبأنّ إرادته قادرة على الفعل. هكذا تفتح المسرحيّة أفقاً لإعادة النظر في قراراتنا الجماعيّة والفرديّة، وتعيد الفنّ إلى موقعه كعنصر سياسيّ فعّال في المجتمع.
سياق اجتماعي وسياسي راهن
إنّ اختيار المخرج لاستغلال القماشة الشفّافة أضفى إحساساً بالعجز الإرادي في مواضع معيّنة، وأثار رغبةً لدى الجمهور في تمزيق هذه القماشة ومساعدة الشخصيّات كلّما نادت من أجل إنقاذها. كان الحاجز فاصلاً بين الاشتباك الحيّ ومحاكاة لواقعنا السياسيّ والاجتماعي:
أصبحت الحروب مادّة للمشاهدة. منذ سنتين، نشاهد الإبادة والحرب التي شنّها العدوّ على جنوب لبنان، عبر شاشة هاتف تفصلنا عن الحدث. نشاهد من ينزح، ومن يستشهد، ومن يقاوم. يتحوّل الحدث إلى مادّة مصوّرة أو مسجّلة يمكن التعليق عليها أو الإعجاب بها، تفقد المآسي قدسيّتها وتصبح مباحة للفرجة.
تلتقط المسرحيّة هذه الفكرة عبر جملة تصدر عن إحدى الشخصيّات:
«حاج تكبسوا وتشيروا وتعملوا لايك».
هكذا، استقى المخرج يوسف خليل مادّته من واقعنا اليومي ومن بيئته، هو نفسه قد عاش تجربة الحرب الأخيرة، وبقي والده في الجنوب، الأمر الذي جعله يعيش هاجس الاطمئنان الدائم على حياة والده. صاغ خليل عمله من تفاصيل تُحكى وأُخرى لا تُحكى في مجتمعنا.
رمزيّة مدروسة
على الخشبة نرى الباب، والعود، والكرسيّ الخشبيّ، وكابينة الهاتف العموميّ التي لم تُستخدم لغرضها المباشر. إذ فعّل العرض رمزيّة هذه العناصر.
تحوّل العود من رمزٍ للموت في بداية المسرحيّة إلى مجدافٍ تحاول إحدى الشخصيّات عبور الحدود به، ثمّ عاد في لحظة متخيّلة، إلى آلةٍ موسيقيّة تعزف بها الشخصيّات ألحاناً تستعيد عبرها ذاكرتها وأملها.
أمّا المقعد، فتارةً استُخدم كمحطّة انتظار، أو كمكانٍ للرثاء، وطوراً كسفينةٍ غير شرعيّة تخشى الغرق، ثمّ كمنارةٍ لأحلام الشخصيّات المعلّقة.
هل نكتفي بالمشاهدة؟
إذا أردنا اختصار المسرحيّة في كلمةٍ واحدة فستكون «التضادّ»:
التضادّ الفاصل بين الحياة والموت، بين النجاة والغرق، بين الأمل والعدم. هذا التضادّ لم يقتصر على الشخصيّات وأدائها، بل شمل الجمهور نفسه، الذي وجد نفسه أمام سؤال:
«هل أتدخّل أم أكتفي بالمشاهدة؟».
نجحت المسرحيّة في تجسيد تضادّ الحياة، وفي دفع المتلقّي إلى تجاوز دور المشاهد العادي لينتقل إلى مرحلة التحليل والنقد لما يدور حوله. «تذكرة من نوع آخر» شهادة مصغّرة عن أحداثٍ ومآسٍ وقعت وما زالت تتكرّر في بلادنا. لعلّنا، وعسانا، ننهض.