أفكار مبعثرة عنكِ وعن الكوسا والحب والموت

كتابة: وليد ضو 

«…أنني حين أنام أعلم أنني أذهب إلى يديكِ» (بسام حجار) 

وأعلم أنه كلما تضاءلت أوجاع يدي اليسرى وظهري تعني أنك صرتِ بعيدة، بعيدة جدّاً. منذ أن أقفلوا الباب عليك، أصبحت وحدك، على عكس أمانيك، صرت هناك، وحدك في الظلمة الباردة. 

حين غادر الإسعاف، بعد فوات الأوان، بقيت ورقة لهم على الأرض، كانت قد سقطت منهم، من معداتهم في محاولات حثيثة لإعادة نبضك المنطفئ؛ كُتب على الورقة: تستعمل لمرة واحدة فقط. 

لكنها لم تكن مرة واحدة، إنما وحيدة وأخيرة. 

على طريق المقبرة، كنت أردد في قلبي اسم خليل روكز، قائلاً: أين أنت يا خليل روكز. ترى لو كان هنا خليل ماذا سيقول لك؟ لم يكن خليل هنا، لكن كانت طريق قبرك بعيدة، ومتعبة، تماماً كما تمنى خليل أن تكون. 

حاولت المشاركة في حمل نعشك، استطعت خطف لحظات؛ تارةً من اليمين، وطوراً من اليسار. كنت أُمنع من الاستمرار بلطف، قائلين لي، عُدّ إلى الخلف. 

لكنك لست في الخلف. من سيمسك بيدي، بعد اليوم، واليد، يدك، لم تعد هنا؟ 

لقد تحضرت مسبقاً لهذا اليوم، تحضرت لهذا المسير الأخير، رسمته برأسي، تصورت تدخلي، وتخايلت منعهم لي. 

تخايلي، أنني كتبت النص الشعري بصيغة المذكر حتّى لا أجلب الحظ السيء. قلت: فلتكن قصيدتي، مرثيتي، مرثيتي لنفسي، وليس لك وعنك. أصلاً، ما الفرق؟ ألم نكن واحداً آخر ست سنوات؟ 

لكننا لم نعد «واحداً»، أنت هناك في الوحدة والعتمة والتلاشي، وأنا هنا، أكتب عنك، عن الوحدة والعتمة والتلاشي. 

كم رقصنا، وكم غنينا معاً في مشوارنا الطويل إلى الحمام. تعاندين، أخترع قصصاً وتصدقينها فأضحك، فتعاندين أكثر، أخسر الثقة، ويطول المشوار، نعود إلى نقطة البداية حتّى نصل. وبعدها نرجع، إلى مقرك. أغني لك:

 «سألوني الناس عنك يا حبيبي

 كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا 

بيعز عليي غني يا حبيبي 

لأول مرة ما منكون سوا» 

ذات يوم أجبتيني: «مش حرام ما يكونوا سوا؟». 

أجبتك: تقبريني. 

فرديت بكل عصبية: تقبر عدوينك إنت بعدك صغير. 

كانت عبارة «تقبريني»، إلى جانب أسئلة «بدك عرق، حرّ، سيجارة؟»، أسئلتي الخاصة التي كررتها آلاف المرات وكنت ترفضين بشدّة وتضحكين قائلة: «أنا ما بشرب عرق (أو حر أو سيجارة)». استمريت بالرفض بنصف جملة بنصف كلمة وبأحرف مبتورة، بالصمت، ولكن استمر الرفض، بالانفعال ذاته، إلى أن فاجأتيني منذ شهر، يوم قلت لك من جديد: تقبريني. 

فأجبت: أنا طالعة عالسما… 

كما تعلمين، لم أزرع كوسى هذه السنة، تخوفت من انقطاع الماء، وبالتالي يباسها، فاستعضتُ عن ذلك بقراءة قصة الكوسى للراحل سماح إدريس. لم تفهمي شيئاً، لكن الرسوم أثارت فيك الفضول، وأثارت نظراتك بي الذكريات. 

حين كنت تأخذين كل الكوسى وتتركين لي الباذنجان، كنت أضحك بسري لأنك أكلت أغرب تركيبة حشوة، ونضحك أكثر عندما أخبرك بمكوناتها، وتنتهي المسألة بوعد مني ألا أكرر فعلتي، التي كنت أعيدها في الأسبوع المقبل، مستعيداً نفس السيناريو والضحك والوعد.



ألّا أزرع الكوسى، يعني موتاً مسبقاً، أو استباقاً له، أي توقعاً له، وبالتالي موت السيناريو وكل الضحك والوعود.

 «هلّا وضعتِ يدكِ الصغيرةَ على قلبي لكي تزولَ عنه الصحراء؟» (بسام حجار). 

ذات يوم، عندما كنا عائدين من الحمام، وما إن وصلنا إلى الدار، سألتك: «هل تحبيني؟»  

قلت: كثييييير. 

أجبتك: كيف أصدقك؟ 

فارتميت بيديك على صدري وأخذت تقبليني حيث قلبي، قبلات متلاحقة ومحمومة. لم أحتمل، لم أستطع الوقوف.  قلت لنفسي: كل هذا المشهد سأفتقده لاحقاً، ولن يتكرر من جديد… 

حين ماتت والدتك في عز صباها، لم تعرفيها، لم تصدقي أنها نائمة النومة النهائية، في المكان الأخير حيث متِّ، قال من كان حولك لك: أنظري إلى يديها، كيديك تماماً. يومها، عرفتِ وبكيتِ وكررتِ القصة لي مئات المرات. وها قد ازرقت يداك… 

--- 

«حبيبي قال انطريني

 لمّا بيِجي الطير 

وبيعشِّش الطير 

بالسجرة الحزينِة

 ونْطَرتك يا حبيبي

 ورح يطلع الهَوا

 وما الْتَقَينا سَوا

 ولا شفتك يا حبيبي»