أبي ليس بطلاً سينمائيّاً

كتابة رزان العريضي 

يستيقظ أبي مع بزوغ الضوء، يجلس على شرفة منزلنا، يتأمل حركة الشمس التي تنبثق تدريجياً من بين الجبال المواجهة للشرفة، يشعل سيجارة لتكون جليسته وهو يشهد على بداية نهار جديد. اعتمد أبي هذا الروتين منذ أن وعيت على هذه الحياة. 

لم يزعجني في الماضي تدخين أبي، بل كنت أعتقده مشهداً سينمائياً جذاباً، يحمل في طيّاته ما لا يمكن إيصاله بالكلمات. أهرع لأصوّره كلما أخذ سيجارة من العلبة وأمسكها في يده وأشعلها. أختبر أي زاوية هي الأجمل، وأجد نفسي أضع هذه اللقطات في أفلامي، معتبرةً أنّها تبرز شخصية أبي بواقعيتها. 

تمجّد الأفلام السينمائية السجائر والمدخنين. تُصوّر أغلب الأفلام، خاصةً الهوليوودية، المدخنين على أنهم في موقع سلطة ويتمتعون بإثارة واضحة (خصوصاً النساء منهم). خطواتهم مدروسة، متمرّدون، متمتعون بالحرية. مثل شخصية طوني مونتانا في فيلم Scarface، وشخصية تايلر في Fight Club، وغيرها من الشخصيات في الكثير من الأفلام... 

استعمال هذه الصورة النمطية ليس وليد اليوم، بل انتشر منذ القرن الماضي مع شارلي شابلن في فيلم «أضواء المدينة»، حيث قُدّمت شخصية المليونير برفقة السجائر المشتعلة، واستُخدمت السيجارة كرمزية لتوالي الأحداث في بعض مشاهد الفيلم، وكذلك كأداة للإيحاء بسمات الشخصيات.



مشى بعض المخرجين الذين تَلوا شارلي شابلن على خطاه. أصبحت أغلب الأفلام الهوليوودية تروّج لنا السيجارة، التي تؤدي إلى الموت (وليست أخطر ما تروّجه هذه الأفلام)، على أنها محطّ إغراء لإكمال الصفقات، فتحصد في السنة ملايين الدولارات كعقود تُبرم مع شركات التبغ في أميركا. 

ليست مفاجأة! فالفن، وخصوصاً السينما الأميركية، أصبح وسيلة أُخرى تتمنهج من خلالها السياسات الاستعمارية، وتروّج جميع الأفكار التي تخدم هذه السياسات. هكذا، تتحوّل المسافة بين شاشة السينما والمشاهد إلى حقل عليه أن يشكّك من خلاله في صحة كل فكرة قبل تلقيها. 

لماذا هذا الربط بين التمرّد والتدخين؟ هل يمكن لصفة مثل التمرّد أن تُكتسب من مجرد سيجارة توضع بين أصابع الشخصية؟ أم أن التمرّد يكمن في معرفة الشخص أنّ السيجارة قد تؤدي إلى موته ومع ذلك يصرّ على إشعالها؟ 

يحدّثنا كارل يونغ عن مفهوم اللاوعي الجمعي الذي يشترك فيه كل البشر. يعتقد يونغ أن هذا المفهوم موروث، متنقّل بين الأجيال، أي أنّه غير فردي، ويعتمد على الصور والرموز الفطرية والنماذج الأولية (Archetypes)  والأفكار المتناقلة عبر الأجيال من تراث أسلافنا. إنّ ربطنا السيجارة بكل تلك الصفات، التي ليس بالضرورة أن تكون موجودة في شخصية كل مدخّن، قد يكون عملية لاواعية اكتسبناها من المجتمع أو الأفلام. على سبيل المثال، تُنمّط الأفلام الهوليوودية النساء المدخّنات بأنهن يحاولن صناعة الإثارة، فنطلق الأحكام على كل امرأة تدخن بأنها تحاول جذب الرجال، وقد تكون تدخن لأنها ببساطة تريد ذلك من دون أي أجندات أو ما ورائيات. 

لا أعلم إن كان هناك سبب لاواعي يدفعني لأصوّر أبي وهو يدخن، أم أنّي أصوّره لأنه أبي وأريد توثيق كل ما يفعله. 

لم يزعجني تدخين أبي، بل كنت أعتقده طريقة لمقاومة هزائم الحياة. تخذله الحياة، فيشعل سيجارة ويحرق في كل نفس كل ما خذله. لطالما اعتقدت أنّها طريقة للمقاومة. 

يخبرني عمّي أنّ أول مرة أشعل أبي سيجارة كانت في الحرب الأهلية، تحديداً في النهار الذي اضطر فيه أهله إلى ترك الضيعة والهجرة إلى ضيعة أخرى. بقي أبي وحده في البيت بقرار صارم منه، وتحوّل بيت جدّي إلى ملجأ للشباب الذين بقوا في الضيعة. في ذلك النهار، أشعل أبي سيجارته الأولى. ماذا حاول أن ينسى أبي في هذه السيجارة؟ 

يأتي رفاق أبي وزوجاتهم إلينا، وينقسمون نساءً ورجالاً في غرفة الشتاء. تجلس أمّي وتشرب المتّة مع زوجاتهم، بينما يجلس أبي ورفاقه ويتحدثون عن الحرب الأهلية. لا أذكر المرة التي جلست فيها في ناحية أمي، لطالما كنت إلى جانب أبي أستمع إلى القصص التي يسردونها. أنظر إلى أبي وأستغرب ابتسامته، أنظر إلى رفاقه، هم يبتسمون أيضاً. لم أعرف يوماً السبب. هذه الحرب أخذت من أبي مراهقته، أخذت منه أخاه الطفل الشهيد، مستقبله، علمه، سمعه. لماذا يمكن أن يبتسم الإنسان لذكريات حربٍ كادت أن تقتله؟ 

يشعل أبي سيجارة بعد كل نقطة ذروة، بعد كل حديث مثمر، بعد كل خلاف. ليس بالطريقة التي تُصوّرها الأفلام. أبي ليس رجل عصابات، ولا يملك المال، ولا يشعل السيجارة ببطء، ولا يحب السيجار لأنه يوحي بالتعالي وبالمقدرة المادية. 

يدخن أبي تمرداً، حبّاً منه لهذه السيجارة التي كانت جليسته في توديعه لأهله، في فقدان أخيه، في أول بارودة حملها، في ولادتي، في كل فجرٍ جديد. 

لم يزعجني تدخين أبي، إلا حين رأيته على سريرٍ أبيض قاتم، يضع في أنفه أنابيب أوكسجين ولا يستطيع التنفس. أدركت حينها أن الحياة لن تترك أبي يتمرّد عليها بهذه الوسيلة بعد الآن. يقول الطبيب لأبي إنه لن يستطيع التدخين مدى الحياة. أعود إلى أول سيجارة دخّنها أبي وأتمنى لو لم يحصل كل ما حصل. 

أتمنى لو أنّ الحياة لم تجبر أبي على التمرّد عليها بسيجارة...


تصوير رزان العريضي